الحقيقة - نص آمنة عموص

 

الحقيقة   - نص آمنة عموص

يقول جبران خليل جبران:

"لا تعِش نصف حياة، ولا تُقابل أنصاف العشّاق، ولا تتكلّم كي تصمت، ولا تصمت كي تتكلّم. إذا صمتّ، فاصمت حتى النهاية." أما أنا، فأقول: النصف ليس ضعفًا ولا عجزًا. النصف هو حياة، هو توازن. هو أن تصمت وتتكلم. هو خير وشر، أمل وألم، حلم واحتراق. هو حب وكره، هو قبول ورفض، هو زواج وطلاق. النصف هو مزيج من أحاسيس متناقضة، هو لحظة تقبّلك لكل شيء، وأنت لست موافقًا. أن تعيش... وألّا تعيش. النصف هو أنت، في كل زمان ومكان. النصف هو سكون وضجيج، هو انتظار بلا موعد، وخطوة بلا وجهة. هو أن تبتسم وفي قلبك غصّة، وأن تضحك والدمع يحاصر عينيك. النصف هو أن تحبّ دون اعتراف، وأن ترحل دون وداع، هو أن تعطي نصفك... وتنتظر الكل. هو أن تنتمي ولا تجد مكانًا، أن تكون حاضرًا في الغياب، وغائبًا في الحضور. النصف هو أن تبقى واقفًا بينما تتكسر داخلك الأجزاء، هو أن تخاف الضوء وتشتاق إليه، أن تسير نحو النهاية وتتمسك بالبداية. النصف هو حياة لا تشبه الحياة، هو أنت... حين تتهرّب من حقيقتك وتتشبّث بظلّك كي لا تسقط. لكن، في النهاية... ربما لا يكون النصف ضعفًا كما يقولون، بل هو دليل على أنك ما زلت تحاول، أنك لم تسقط تمامًا، ولم تنهض كليًا، أنك إنسان... تتأرجح بين الخوف والرجاء، بين الصمت والكلام، بين ما تريد... وما تستطيع. النصف، ببساطة، هو الخط الفاصل بينك… وبينك.

رحلة إلى أرواح مجهولة - بقلم حنين المهذبي

حنين المهذبي

حنين المهذبي



في طريقي للعودة إلى المنزل اليوم، استقللت الحافلة، وربما كان من المفترض أن أكون كأي راكبٍ آخر… مجرد جسدٍ في مقعد، لا أكثر ، لكنني لم أكن كأي راكبٍ آخر. كأنني عبرت فجأة إلى طبقة أعمق من الواقع… كأنني انسللتُ من جسدي، وجلستُ في مقعدٍ داخلي، أراقب الأرواح، لا الأجساد.
نظرتُ حولي، ولم أرَ ركّابًا… بل قرأتُ دواخلهم كما تُقرأ القصائد بصمتٍ خاشع.
امرأة على يساري، كانت تنظر من النافذة بنظرةٍ معلقة لا في الخارج ولا في الداخل. كان وجهها يقول كل شيء دون أن يتحرك، وكان صمتها ينزف تعبيرًا لا يحتاج إلى صوت.

شعرت بها تقول: "تعبت… لا من العمل فقط، بل من التظاهر بأنني بخير." في لحظتها، شعرت أن الضعف ليس عيبًا، بل حقيقةٌ تختبئ خلف جفنٍ نصف مغلق.
ثم كانت هناك شابة في الزاوية، وجهها ساكن، لكن في نظرتها شيء يشبه المرارة الصامتة. عينان مفتوحتان، لكنّهما لا تنظران لأحد، وكأنها غارقة في سؤالٍ قديم: "لماذا تبدو الحياة كأنها عقوبة؟"

تبدُو قوية، لكن من ينصت جيدًا لفمها المغلق، يسمع صراخًا هشًا يقول: "لا شيء على ما يُرام."
في المقعد المقابل، شاب يضحك بخفة مع فتاةٍ تجلس إلى جواره. ضحكته لم تكن فارغة… كانت صادقة، دافئة، فيها شيء من الامتنان. شعرت أنه يقول: "الحياة ثقيلة، لكنكِ تخففينها."

ضحك، ثم عاد إلى سكونٍ قصير، كأن الضحكة كانت استراحة مؤقتة من معركة طويلة.
ثم كان هناك رجل يتحدث بصوت مرتفع، يلوّح بيديه وهو يشرح شيئًا لصديقه، أو ربما لنفسه. لكن صوته لم يكن حادًّا، بل كأنه يريد فقط أن يُسمع… أن يُحسّ.

في داخله جوع عميق للانتباه، كأن وجوده نفسه لا يكتمل إلا عندما يلاحظه الآخرون.
ولوهلة… شعرت بشيء غريب. كأنني كنت الوحيدة التي تراهم فعلاً. كأنني النافذة الوحيدة المفتوحة على داخلهم. لم أكن راكبة… كنتُ مرآةً صغيرة تتجول بينهم، تعكس ما يحاولون إخفاءه.
جمعتنا الحافلة بالجسد، لكن كل واحدٍ منهم كان في جزيرته الخاصة، يغرق، أو يتنفس، أو يطفو بصمت.
كنت بينهم… لكنني لم أكن منهم. كأنني أُسقط ستار الواقع، وأدخل إلى ما تحت القشرة… أرى الإنسان كما هو: هشًّا، قويًّا، خائفًا، محبًّا، ومتعبًا في آنٍ واحد.
وأدركت حينها، أن كل لحظة عابرة، تحتوي على مجرّة كاملة من الشعور… فقط إن صمتنا قليلاً… وأنصتنا حقًا.

استحقاقية خرق التشريعات

استحقاقية خرق التشريعات


 بقلم: عبد الله جمعة المشايخي

خلال رحلة حياتي، أيقنت أن جل القوانين قابلة للاختراق. حتى إن أصحاب السبت خرقوا التشريع الإلهي بحيلة لتجاوز التحريم، الطالب يغشّ في الاختبار مستغلاً دهاءه دون أن يكشفه المعلم، رغم إدراكه بأن هذا الفعل قد يحرمه النجاح. لماذا يسعى الإنسان لخرق القانون رغم أنه وُجد لجعل حياته أكثر تنظيماً ؟ وهل استغلال الثغرات القانونية حق إنساني؟ وما تبعات مطاوعة القانون وفق المنظور البراغماتي؟

إذا ما أمعنا النظر في قصة أصحاب السبت، ستجد أنهم لم يخترقوا حرفية النص، بل روحه. أما عن الطالب الغشاش، فهو لا يخترق القانون بشكل مباشر، بل يلعب على حدوده، وقد يبرر فعله مستخدماً العبارة، "ما دمت لم أضبط فأنا لست مذنباً". كلتا الحالتين في المثالين السابقين لم تخترق القانون، بل تحايلتا عليه، وهذا هو جوهر الأمر. «المشكلة ليست في حرفية النص، بل في نية مستخدمه». فكم من تشريع سماوي حوله المجتمع إلى عبء يُثقل كاهل أفراده، وكم من قانون وضعي استغله القوي لأكل الضعيف.

يقول فرويد: «الممنوع يُثير الرغبة لا يُخمِدها». هنا نستطيع تفسير تجاوز أصحاب السبت للأمرالإلهي، حيث إن الرغبة كانت الصيد، والاستجابة كانت الحيلة، أما عن الطالب الغشاش، فهو يرغب في النجاح بلا جهد، وحين يُمنع من الطريق السهل، تتحايل رغبته على المنع فيولد الغش كاستجابة نفسية. رغبات الإنسان هي الركن الأساسي في تجاوز الخطوط الحمراء، وهذا ما يفسر تجاوزات فئة من الناس على القانون والتحايل عليه، مثل استغلال منفعة الباحثين عن عمل وذوي الإعاقة، فكم من شخص لم يكن يرغب في العمل  من الأساس ملأ جيبه من هذه المنفعة، وكم من شخص رزقه الله الصحة جعل من نفسه معاقا ليقبض دراهم معدودات.

هذه "الاستحقاقية" تحول الخرق إلى ما يُشبه الإنصاف الذاتي، وهذا ما يوحي للمتجاوز أن ما يفعله هو حق إنساني لا يمكن المساس به. من المؤكد أن المتجاوز وقع هنا في مغالطة الاحتكام إلى الذات، كونه يعتقد أن ما يناسبه، أو ما يراه صواباً من وجهة نظره الخاصة، يجب أن يكون صواباً موضوعياً أو عاماً.

البراغماتي يرى أن التحايل يعطيه شرعية الفعل من أجل مصلحته الشخصية، وإن تجاوز الشرع الإلهي، لذلك نراه يتعامل بالربا بغطاء إسلامي، حيث يتجاوز الأمر بدهاء متعمدا كسر حرمة الأمر دون خرق ظاهره. هذه الشخصية نراها تستغل نظام نسبة توطين الوظائف لتخترق كما هائلا من القوانين التي لا تتحملها الأسفار، ويطرد الموظفين مستغلّ قانون العمل الذي يعطي المؤسسة حقا في ذلك حين لا يتوافق أداء الموظف مع رؤية الشركة، وهو لا يطبق القانون لذلك، بل ليوظف شخصا جديداً براتب أقل.

التحايل على القانون ليس ذكاء، بل إعادة صياغة للجريمة على هيئة امتثال، وهذا ما يتسبب بضررعلى المستوى الفردي كعقوبة آنية أو متأخرة، ويؤثر على المجموعات كإرهاق الدولة مادياً عبر استغلال المنفعة، وزيادة نسبة البطالة عبر طرد الموظفين.

القمر الليلة ليس ككلّ ليلة - شهد المهذبي

القمر الليلة ليس ككلّ ليلة

- شهد المهذبي

يطلّ بهدوء ساحر على هذا العالم المتعب يتسلل بنوره الفضيّ من بين غيوم شاردة، كأنه شاهد قديم يعرف كل شيء… لكنه يكتفي بالصمت. ينظر إلى الناس من عليائه، يرى من يبتسم رغم التعب، ومن يخفي وجعه بين طيّات الصمت، يشهد اللحظات العابرة التي لا يلتفت إليها أحد، دمعة خافتة، دعاء في عمق الليل، أمل صغير يولد في قلب منهك. يجالس الساهرين في شرفاتهم، من فقدوا النوم وراحوا يفتشون عن معنى لليلة أخرى، يواسي الحزين الذي لم يجد كتفًا يضع عليه تعبه، يمسح على قلبه بنورٍ لا يرى… ويقول له: "أنا معك." يطل على البحر فيسرد له أسرار الليل، ينصت إلى همس الموج، ويغرق في صمت الماء كما يغرق البشر في أفكارهم. يرى القرى المتناثرة كحكاياتٍ منسية، ويراقب المدن التي لا تهدأ، يُراقب من يمشي بلا وجهة، ومن يقف في الزاوية ينتظر شيئًا لا يعرفه. من بعيد… يتأمل بصمت، نظراته مزيجٌ من الفرح والألم، كأنه يحمل ذاكرة الأرواح المتعبة، يعرف من تألم، ومن قاوم، ومن لازال ينتظر ضوء الفجر. يؤنس الوحيد في وحدته، ويمنح الساكتين لغة أخرى يفهمها القلب، يُلهم المفكرين، الحالمين، الكتّاب، ويوقظ في داخلهم شيئًا ناعمًا يشبه الإلهام. ينصت لنغمة الليل، لتنهيدةٍ في العتمة، لصوت الريح على النوافذ، يحزن لأجل من فقدوا المأوى، ومن يصارعون الحياة بلا حيلةٍ ولا ضوء. القمر الليلة ليس مجرد نور ينير سواد الليل بل صديق قديم، وشاهد صامت على القلوب التي تحاول أن تظلّ نابضة رغم كل شيء.



براءة "اللابوبو" وضياع الهوية

 

اللابوبو يفكّر.. إذن نحن ضائعون

براءة "اللابوبو" وضياع الهوية


وأنا أُحدق في كائن الـ"لابوبو" الشنيع، وجدت أن مفاهيم الجمال بدأت تتساقط من كل حدب وصوب في أرجاء روحي، وكأنّنا –جميعًا– نعيش حالة (إيكوبراكسيا) جماعية دون أن نعي.

لم أسكت عن شكوكي تلك، وهممت بفتح تحقيق بيني وبين جذوري.. عدت بدفء كثير – وسألت نفسي: هل ملاحقة "الترند" أمر فطري متجذّر فينا منذ الأزل، أم أنه حاجة أخرى، أعمق بكثير مما نُخفي؟

لم أجد حقيقة أوضح من أن "كل ما هو معروف بتطرف" إذ لم يسبق أن تواجد جمع بشري غفير، إلا وكانت النوائب حاضرة؛ بدءًا من أيام الغزوات، والحروب، والأوبئة، إلخ.

لم ينتج عن تجمعهم –المنقاد– سوى الخراب. واليوم، نعيش نسخة ناعمة من الطاعون: يُدعى "الترند". وكائن "اللابوبو" شرّ دليل على هذه الحقيقة: دميةٌ صارت رمزًا لفوضى القيم؛ تدخل بيت الزوجين فتُسرّع الطلاق، وتُلقى في أحضان الأبوين فتُثقل كاهلهما باسم "الموضة"، وتنتشر بين الشباب لا كوسيلة تسلية، بل كأداة لتفاخر ساذج.

إنها موجة جنون على أمر جنوني، تدل بلا شك على ضياع الهوية. فاليوم، نحن لا نسعى لشراء ما يحتضن سعاداتنا، بل نخلق من حاجات بالية احتياجات أولية.

أأمر مادي؟ أم نفسي؟ أم اجتماعي؟

في الحقيقة: كلّها معًا.

فالتطلّع إلى شراء شيء صغير بمبلغ كبير هو أمر مادي بامتياز؛ علاقة طردية بين حب الوصول وكثافة البذل.

لكن سببه اجتماعي، إذ يسعى صاحبه نحو الانتماء، في زمن –إلا من رحم ربي– نحيا فيه في تيه جماعي، بلا بوصلة ترشدنا إلى انتماء قويم.

غير أن الجذور، في عمقها، نفسية.

نعم، وإن أبينا الاعتراف، فـ"تأثير القطيع" لا ينبع إلا من فراغ داخلي، من وحدة لا يملؤها انتماء حقيقي، ومن نقص يدق طبول السخط وعدم الرضا بين حيّن وآخر.

فلا "الترند"، وقطعًا لا "اللابوبو"، هو من يُحرك الجموع لتتحشد أمام متاجر مادية لم يذق مرتادوها طعم التصالح مع الذات.

فلنُسقط التهم عن كائن "اللابوبو"،

 ولنبدأ – جديّا –  في تقييم حاجاتنا واحتياجاتنا، ولتكن وقفة صادقة نسأل فيها أنفسنا:  هل جذورنا راسخةٌ في الأرض،

أم أنّها تتمايل لاهية، مع كلّ هبّة ريح  ... حتى وإن لم تكن عاتية؟

البحر -العيد بن منصور



في طفولتي التي كانت مزيجا من غيم الحزن و مياه السعادة، كان اللون الأزرق حاضرا بكثافة الموج و استطالة صفحة السماء، و كان إعجابي بكل متلون بالزرقة يتدفق إلى عيني فيسحرهما و يستوطن نفسي فيغرقها في ماء السكينة و صفاء الحياة.

البحر العيد بن منصور



يشدني بالنظر و التأمل فضاء السماء الأزرق الجميل، و يستهويني بالسحر و الإغراق في التفكر منظر البحر مستلقيا على زرقته الممتدة على مدى البصر و طول الأفق .
أحببت الماء، و أردت إمساكه .. أحببت العوم و الغرق، فكنت لا أفوت فرصة وجوده إلا و غطست و سبحت و أمسكت بما أستطيع منه، و عاركته و عبثت حتى أمل .
أتتبع مواطنه حيث كان، فلم أدع بئرا إلا و انغمست فيها و لا نهرا إلا و جريت مع جادته، و لا بحرا إلا و سكنته و سكنني و تلهيت بمـوجه و أغرقت فيه رغبــتي و عشقي للسباحة .


بلغ بي جنون البحر و أنا الذي أتقنت فن العوم قبل أن ألقاه .. حدا لا يوصف ، و قد كنت تمرست على صحبة الماء و مخالطته منذ أيام طفولتي عندما كنت و مجمـوعة من الأصدقاء الأشقياء، نلجأ إلى بئر واسعة و عميقة ، نمضي فيها معـظم ساعات يوم الصيف القائظ ، نستظل في ظل النخل و بيت مـن الجريد ، نأكل ما نحضر من الطـعام و نسبح ونقفز في الماء حتى يصيبنا الجهد، فنرتاح ثم نعـاود حتى ينقضي يومـنا، و قد تطير بنا فكرة مجنونة فنحمل أنفسنا على ستار الظلام و نسير مسافة طويــلة إلى بئرنا في تلك الغيطان البعيدة، فنغطس غطسة أو غطستين كنا نسميها غطسة منتصف الليل، و لعلي الآن، أسميها غطسة الجنون .



لعل بعد البحر عن مكان إقامتي عاظم تعلقي به و محبتي للهو و العبث في مائه و تمني ذلك .. أذكر أول مرة التقيته فيها .. من دون مقدمات ألقيت نفسي و قد كان بها شوق كبير، في أحضانه، و لست أدري لم كانت حفاوته بي كبيرة لا توصف، مع أنه كان غاضبا متقلبا في ذلك اليوم، و لم يكن هادئ الطبع و لا ساكن الروح، أرغت أمواجه على صفحته كرؤوس الشياطين و قد استرسلت  في معانقته و احتضانه و الإمساك بما أستطيع من موجه، و القبض على تلك الرغبة التي يطاردها الغرق.


النزول إلى البحر متعة كنت أقدمها على كثير من الأعمال المهمّة، أذكر و لمرات عديدة، و قد صادف حضوري لملتقيات و مؤتمرات أقيمت في أماكن بجوار البحر، لم يكن الأمر حينها في متناول قدرتي و لا واقعا تحت سيطرتي، عندما كنت أتـرك قاعة المحاضرة و الأشغال و أتسلل في صمت لأزاول متعتي، فلم يكن البـحر بالصديق الذي أفـرط فيه و هو على هذه المقربة المغرية، يكاد صوته في أذني يطغى على أصوات المتكلمين، و ما هي إلا أيام ستشتد بي الحسـرة بعدها إذا أنا أفلت لحظـات طفولتي العائـدة، و خيالات أصدقائي الأشقياء و كأني بهـم ينادونني و أنا أسمعهم .. أتـرك كل شـيء و الحق بنا عند البئر التي صارت في مثل طول السماء و عرضها .

لعلني أيضا أبالغ في سرد هذا العشق الخاص .. و لكنني أدرك أن لي عالما نسجته تلك الزرقة و صبغته ، و تلونت بلونه رغبة ظلت تسكنني، و أريد أن أسكنها وحدي، فأنا أفضل البحر في جوار الوحدة و أسعى لأتخذه خلوة، لا أحب زحمة المصطافين و لا كثرة الزوار و مظلاتهم، لا أحب طرائق تعاملهم مع الماء و لا ألعابهم و لا نظراتهم، و لا طقوس المغازلة التي يحب الكثير ممارستها ، فعلى ضفاف الزرقة ريشة واحدة لرسم البحر، و وردة واحدة لعشقه. لست أتذكر الآن كم من الشعر ألهمته في متعة التأمل و كم من الأغنيات رددت على إيقاع الموج، و لكنها ذهبت و اندثرت .. بلا أسف و لا حزن فقد كنت أنشدها و أسمعها آذان البحر و روحه ، و الساعة في يقيني أنها محفوظة في أعماقه، يهديها في كل مرة لشبكة صياد، أو لؤلؤا تتـزين به أجمل النساء.


على ذكر الجمال .. كنت دائما متسائلا عن سر جمال هذه اللوحة بنفس اللون .. زرقاء و أزرق، لعله في تدرج هذا اللون .. فاتح في صفحته القريبة يدكن كلما ازداد بعدا و اتساعا، يزينه ذلك البياض الناتئ كلما تخبط الموج على ظهره و انتفض، و يصنع لنفسه شيئا من الاخضرار و شيئا من حلكة الليل، ربما هذا سر جماله، فهو يصنع لوحة نفسه بنفسه و يغيرها و يتفنن في إظهارها و عرضها، كأنه يقلبها في زوايا رواق و على انكسارات الضوء، و كأنه يلعب بأبصارنا يستحل فينا مخادعة هذا العقل البسيط أمام جلالته و هيبته .


ربما يرعبنا و يرهبنا لنعلن أنه جميل، لننبهر و نعترف، شيء آخر من ذلك السر، إنه ينطوي بالرغم من جماله و وداعته، على انقضاض الموت إذا انخدع له عاشـقوه و راكبوه ، و على قوة الدمار إذا انقلب مغاضبا على هذه الأرض الصغيرة، يحتفظ بالتأكيد بتوازن الرعب، و مطلق الرهبة، يغلفها بقماش رسام تفنن بكثير من الزرقة ليرسم لنا جمالا نقبع أمامه و نتعرى له و نلقي بأجسادنا في أحضانه، و ننشئ كلمات الحب و نكتب الروايات و ندبج الأغاني و الشعر و نعشق برعاية مهابته و على أسرار جماله .


الآن أيها البحر ستنطفئ فيك تلك الشعلة التي تسمى شمسا، ستغرق فيك كما أغرق دائما، و ستذوب كما ذابت أغنياتي و أشعاري في أعماقك، الآن سأقوم من مقامي هذا بعد أن ألهمتني شيئا من الكلمات و سافرت بي إلى زمن الطفولة ، و أراك سيصمت لك الكون، و يبقى صوتك يضج طول الليل، و أنت لا يراك أحد بعد أن تمــسح زرقتك، أو تطوي لوحتك و تركنها في إحدى زوايا المرسم .

لص يوم السبت رائعة الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز

 

لص يوم السبت  رائعة  الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز

“أُوغُو” لصّ يسرق نهاية كلّ أسبوع فقطّ، تسلّل ليلة سبت إلى أحد المنازل، فضبطته “آنا”، الثّلاثينية الجميلة الدّائمة السّهر، متلبّسا بجريمته. بعد أن هدّدها بالمسدّس سلّمته حليِّها وأشياءها الثّمينة، راجيّة منه ألاّ يقترب من طفلتها “باولي” ذات الثّلاث سنوات. مع ذلك فقد لمحته الصبية التي أسرتها بعض حيله السّحرية. فكّر أُوغُو: “لماذا عليّ أن أرحل باكراً، ما دام الوضع جيّدا هنا؟”.
فبإمكانه البقاء طيلة نهاية الأسبوع والاستمتاع كليّاً بالأجواء، إذ أنّ الزّوج لن يعود من سفره إلاّ مساء الأحد -يعلم بالأمر بعد أن تجسّس عليهم-لم يفكّر اللّص طويلاً: فارتدى ملابس ربّ البيت وطلب من “آنا” أن تطبخ له وتجلب النّبيذ من القبو وتضع شريط الموسيقى أثناء تناولهم العشاء، فبالنّسبة له لا حياة دون موسيقى.
كانت “آنا” منشغلة البال بطفلتها “باولي” وبينما كانت تحضّر وجبة العشاء خطرت لها فكرة للتّخلص من هذا الشّخص. لكن ليس باستطاعتها فعل الكثير فأُوغُو كان قد قطع أسلاك الهاتف، والمنزل منعزل وكان الوقت ليلاً ولا أحد سيأتي.
فقررت “آنا” أن تضع قرصاً منوّماً في قدح “أوغو”. أثناء تناول العشاء اكتشف اللّص، الذي كان يعمل باقي أيّام الأسبوع كحارس لأحد البنوك، أنّ “آنا” هي مقدّمة برنامج الموسيقى الشّعبية الذي يستمع إليه كلّ ليلة وبدون انقطاع. فهو من المعجبين بها أيّما إعجاب، وبينما كانا يُنصتان إلى العملاق “بيني * ” يُغنّي أغنية ” Cómo fue “، تحدّثا عن شؤون الموسيقى والموسيقيّين. ندمت “آنا” على تنويمه، بما أنّه يتصرّف بهدوء وليس في نيّته أذيّتها أو التهجّم عليها. لكن فات الأوان فالمنوّم في القدح واللّص قد تجرّعه كاملاً وهو في قمّة السّعادة. مع ذلك، وقع خطأ ما، فمن شرب من القدح التي بها المنوّم كانت هي، وعلى إثرها استسلمت للنّوم بسرعة.
في اليوم الموالي استيقظت “آنا”، وهي بكامل لباسها وعليها لحاف يدثّرها بشكل جيّد في غرفتها. في الحديقة كان “أوغو” و”باولي” يلعبان بعد أن أتمّا تحضير الإفطار. اندهشت “آنا” من منظرهما وهما في قمّة الوئام، كما بهرتها طريقة هذا اللّص في الطّبخ، كان جذّاباً بما يكفي. فبدأت “آنا” تحسّ بسعادة غير عاديّة.
في تلك اللّحظات قدِمت إحدى صديقاتها تدعوها لتناول الغذاء معاً، فتوتّر “أوغو” لكنّ “آنا” رفضت الدّعوة متعلّلة بمرض الصّبية فودّعت صديقتها على الفور. وهكذا بقي الثّلاثة في المنزل مجتمعين للاستمتاع بعطلة يوم الأحد.
كان أوغو يترنّم مطلقاً صفيراً وهو يصلح النّوافذ وأسلاك الهاتف التي عطّلها في اللّيلة الماضيّة. انتبهت “آنا” إلى أنّه يتقن رقصة “الدّانثون”، رقصتها المفضّلة لكنّها لم تستطع ممارستها مع أيّ شخص. فاقترح عليها أن يرقصا معاً هذه الرّقصة، فالتحما وشرعا في الرقص إلى أن حلّ المساء. كانت “باولي” تراقبهما وتصفّق إلى أن نامت في آخر المطاف. بعد أن نال التّعب من الرّاقِصَيْن استلقيا على إحدى الأرائك في البهو.
في تلك الأثناء، لم يجدا ما يقولانه، وقد نسيا أن ساعة قدوم الزّوج قد حانت، فأعاد لها “أوغو” المسروقات رغم إصرارها على عدم استردادها وأعطاها بعض النّصائح حتى لا يتمكن اللّصوص من التّسلل إلى منزلها. وودّع المرأة وابنتها وهو حزين.
كانت “آنا” تنظر إليه وهو يبتعد، فنادته بأعلى صوتها قبل أن يتوارى عن ناظريها، ولدى عودته أخبرته أن زوجها سيعاود السفر مجدّداً نهاية الأسبوع القادم. فعاد أدراجه سعيداً وهو يرقص مجتازاً شوارع الحيّ بينما بدأ الظلام يرخي سدوله .

عيدنا القديم .. وعطر ذاكرتي - علي سويلم مصر

 

عيدنا القديم .. وعطر ذاكرتي - علي سويلم مصر

ما زلتُ أنتظر العيد كما كنتُ في طفولتي شغفٌ لا يفتر وفرحةٌ تتسلل من بين الأيام

حتى تصل إليَّ كنسمة من زمن مضى ولم ينته لم يكن العيد في ريفنا مجرد يوم للاحتفال بل كان طقساً وموسماً للفرح يحتفل فيه القلب قبل الجسد كانت الطقوس تبدأ منذ الليلة السابقة النساء يخبزن الكعك فتفوح رائحة اليانسون والسمن وماء الورد كنا ننتظر حصتنا من العجين لنشكّلها بطريقتنا نزينها بالتمر أو الراحة ثم نراقبها وهي تُخبز إنها تتوسط كعكات أمي  كأننا نراقب الأحلام تُولد ثم .. ننام واللهفة تملأ مسامات محيّانا ونستيقظ على أصوات التكبيرات تتردد في القرية الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله وكانت الجلابيب مكويّة ومعلقة على حبال الخزائن كأنها مثلنا تنتظر والأحذية الجديدة مصطفة كجنود في انتظار إعلان الفرح نسير إلى المصلّى جماعات الصغار يتسابقون واباؤنا يمشون بخطى وقورة لكن القلوب عند الجميع ترقص فرحاً وكانت الصلاة كأنها عرس دُعينا إليه منذ نعومة أظافر الحياة فينا صلاة العيد جامعا ... ياااا لهذا النداء يكبّر الخطيب سبعاً ويخطب ثم خمساً ويخطب وبعد الصلاة لا نعود للبيت بل نعايد جيراننا بيتاً بيتاً لا يُغلق في وجه أحد بابا يصافحوننا بالكعك والتمر والقهوة والضحكات والدعوات هذا صباح العيد ثم بالبيت نقبّل يد أبي وأمي ولنحظىٰ الأن بالرضا والعيدية كانت جنيهات جديدة لها رائحة كأنها من الجنّة ثم زيارة الأرحام .. وكنا نمشي مسافات طويلة لنسلم على الخالة أو العمّة أو الجدّة ونحظى بعدية ثانية وثالثة ورابعة كانت الزيارة بحد ذاتها هدية وكانت الدعوات أجمل من كل العيديات كنا نتباهى بعدد الجنيهات التي جمعنا لكننا نعود لنخفيها في أماكن سرية في البيت خوفاً من أن يسرقها أحد إخوتنا وكان العيد لا يكتمل دون أن نحكي عن الحج والحجيج ونعدّ الأيام لعودة فلان من مكة ونقرأ على جدران منازلهم أهلاً بضيوف الرحمن نحفظ أسماء المشاعر عرفة، مزدلفة، منى  وكأننا بقلوبنا نرافقهم كان الحج حلماً وكانت صور الكعبة تعلق في جدران البيوت بجوار تقاويم العيد كان العيد وما زال أكبر من يوم وأكبر من احتفال هو اختصار لفرحٍ نقيّ لحبٍّ بسيط لوجوه لم تغب عن الذاكرة واليوم ونحن ننتظر العيد وسط زحام الحياة نحاول أن نستعيد تلك الروح كأن نرسم البهجة على وجوه أبنائنا جيراننا ومعارفنا كما رُسمت على وجوهنا يوماً في العيد فالعيد لا يعود بالوقت بل نحياه بالنية والذكرى وطيب الانتظار وكل عام وأنتم بخير

عيدنا القديم .. وعطر ذاكرتي - علي سويلم مصر


أمنية أوركيدية

 سلمى علي أبو فلاحة

كاتبة من الأردن

أمنية أوركيدية


أبحرتُ في محيط الأبجدية، أفتّش في زواياها عني، لعلّي أجد نفسي على متن إحدى بواخر الحبّ، تلك التي تحمل في جوفها قلوبًا هائمة بأرواحٍ ربما لم تختبر يومًا مثل هذا الشعور.
أيُّ إحساسٍ هذا حين تشتعل في داخلك لوعة لقاء شخصٍ مرَّ بممرات قلبك عابرًا، ثمّ دون وعيٍ أو استئذان، ولج الجناح الملكي في أعماقك، واستقرّ على العرش؟ لعلّه حينها كان مجرد ظلّ، لكنه لم يعد كذلك... أبدًا.

💜💜💜

وللصدق أقول: لم يستهوِني حين رأيتُه أول مرة. كان غليظَ اللفظ، حادَّ الملامح، وتحت جفنيه سيفان متقابلان، يتوسّطهما عقدٌ فاتنٌ كأنّه وُلد من رحم الغموض.
ربما كان ذلك بسبب المهام التي لا تنتهي من حوله، فلا أحمّله ذنبًا، حاشاه. وإنّ في قلبي خشيةً من تجاوز حدّي مع سيدِ هذا العرش، فمصيري حينها قد يكون الجنون، ويُلقى بي في سجن الغرام مدى الحياة.

💜💜💜

لحظة...! وهل هناك أجمل من أن أحمله داخلي كسرٍّ لا يشيخ، أن تُكبَّل حواسي فلا ترى سواه، فلا يسمع قلبي غير صدى أنفاسه؟
وذات مساء، جلستُ إلى مكتبي أدوّن شتاتي، فأطلّ بصري من نافذة غرفتي أتأمّل غروب الشمس أمامي. أغمضتُ عينيّ، وأسلمتُ روحي، فحلّقت معه عبر خيالٍ طالما تمنّيتُ لو أنّه يصبح يومًا حقيقة.

💜💜💜

كنّا هناك، سويًّا، نتحصّن في ظلّ شجرة سنديان إسبانيّة، تتهادى حولنا زقزقة العصافير، وتتماوج أنغامها مع خرير ماء البحيرة، ونسيمٌ عليل يراقص شعري الأجعد في حنوّ.
أما هو، فإلى جانبي، تغمره سكينة الرضا، يرتسم على وجهه المضيء ابتسامٌ قادرٌ على زلزلة قلبي، وإغراقه في فرحٍ طفولي.

💜💜💜

عيناه؟ كانتا تبعثان نورًا لا يُرى، إشعاعَ سعادةٍ لا يعرف الزيف، يسري في شراييني كأنه خلاص.
وآهٍ من سيفيهما المعلّقين... تعجز الحروف عن وصفهما، فمهما تغيّر الزمان، سأبقى عاشقة لهما.

💜💜💜

يقطع اختلاسي لنظراته الأخّاذة، حين يشير بيده نحو الشمس قائلًا: «أنظري، ما أجمل الغروب هناك!» فأنزاح ببصري مرغمة، إذ لا تودّ عيناي مفارقة وجهه الملائكي.
فتنسكب أشعة الشمس على شعري الأشقر، كأنها تُبارك لوني بلون الضوء. وحين لمح ذلك، نظر متحيّرًا إلى العشب من حولنا، ركض لبضع خطوات، ثم عاد بوردة أوركيد اقتطفها، غرسها بين خصلات شعري، وقال ضاحكًا: «الآن اكتملت لوحتي فائقة الجمال».

💜💜💜

أمسكتُ بيده، وتعالت ضحكاتنا، حتى خُيِّل إليّ أن العصافير والفراشات تنظر إلينا وقد امتلأت حبًّا ورقّة.
فتحتُ عينيّ، والغِبطة تختبئ في جوف قلبي ككنزٍ ثمين، التفتُّ إلى زهرات الأوركيد بجانب سريري، وقلت لها همسًا: آهٍ، لو أكون له… آهٍ، لو أنّه… لي.

مِنْ خَلْفِ سُورِ اَلصَّمْتِ - مريم أحمد كاتبة من مصر

 


عَزِيزَتِي م. م

غَيْرَ مُتَاحَةٍ لِلْبَوْحِ. . . مِنْ خَلْفِ سُورِ اَلصَّمْتِ عَلَى وَقْعِ هَمْهَمَاتٍ مِنْ
اَلْمَاضِي خُيِّلَ إِلَيَّ ضَوْءٍ يَنْبَلِجُ يَنْبَثِقُ عَنْهُ حُلْمٌ قَدِيمٌ
اِفْتَرَشَتْهُ ذَات يَوْمٍ عَلَى
فِرَاشِ قَلْبِكَ تَنَاوَبَنَا اِكْتِمَالُ تَمَامُهُ
- سَوِيًّا- مُنِيَ اَلْبِدَايَةُ وَبِكَ اِكْتَمَلَ
نِصَابُ اَلْأَمَلِ لِمَاذَا غَفَوْتِ فِي
اَلْمُنْتَصَفِ وَكَيْفَ تَكُونُ صَحْوَتكَ وَكَّلَ
صَيْحَاتِيِ فِي وَخَزَاتٍ لَمْ تُحَرِّكْ
سُكُونَكَ أَيَّ غَفْوَةٍ اِخْتَرْنِي وَأَيُّ سُورٍ
بَيْنَكَ وَبَيْنَ اَلْحَيَاةِ أَقَمْتُ! ؟





مريم أحمد كاتبة من مصر

مجموعة قصصية أم غادة الجم

مجموعة قصصية  أم غادة الجم


تاج الصمت 

في زقاق ضيق من أحياء المدينة القديمة، حيث يتداخل الحاضر مع عبق الماضي، وقفت زينب أمام مرآتها الخشبية المتشققة. تأملّت انعكاسها، ثم رفعت يديها برفق وثبّتت العمامة التي ورثتها عن جدتها، تلك التي حيكت بخيوط الصبر والكرامة. 
كانت ألوانها الزاهية تحكي قصة أجيال، كل طيّة فيها تحمل سرًا من أسرار النساء اللاتي سبقنها، وكل خيط يروي فصولًا من الألم، الفخر، والنجاة. مرّرت أصابعها فوق الخيوط الفضية المتشابكة بين القماش، لامست السلسلة المعدنية التي خطّها الزمن بلون الصدأ. تذكرت حين كانت طفلة، كيف كانت جدتها تروي لها عن "تاج الصمت"، كما أسمته. كانت تقول: "إنها ليست مجرد عمامة يا صغيرتي، بل درعٌ يحفظ تاريخنا، هويتنا، وأحلامنا التي لن تسقط أبدًا." كبرت زينب، وكبرت معها الحكايات التي خُبئت في طيات هذا القماش. 
في قريتها، كان الصمت لغة النساء، لكنه لم يكن استسلامًا، بل حكمةً مختبئة خلف نظراتهن العميقة. كنّ يتحدثن دون أن ينطقن، يكفي أن تلتقي العيون لتُقال القصائد، أن تتحرك الأصابع برقةٍ على الخد لتُكتب الروايات.
 في ذلك الصباح، حين قررت زينب أن ترتدي تاجها أمام الملأ، لم تكن مجرد فتاة أخرى تسير في الشوارع، بل كانت سليلَة إرثٍ عتيق، امرأة تقف بين شظايا الأمس وبدايات الغد. أضاءت خرزة العنبر المعلقة في أذنها كما لو أنها تحمل نبوءةً غير مكتوبة، وتلألأت حبات اللؤلؤ بين أصابعها كأنها تشهد على صمت النساء اللواتي حملن أحلامًا أكبر من أن تُحكى. خرجت إلى السوق، بخطوات هادئة لكن راسخة. لم تكن بحاجة لكلمات لتخبر الجميع من تكون. كانت عمامتها تحكي، عيناها تروي، وسكونها يصرخ بأعلى صوت:
"أنا هنا... وسأُسمعكم حكاية لم تعتادوا سماعها."

القصة الثانية: نيران القدر

 كانت تُدعى "ليانا"، وكأن اسمها وُلد مع النار التي تسكن عينيها وشعرها المتوهج. وُلدت في قرية على تخوم البحر، حيث الرياح تعصف بالرمال والناس يحكون عن أساطير البحّارة والأمواج التي تبتلع السفن. لم تكن كأي فتاة في قريتها، كانت مختلفة، وكأن القدر خطّ لها طريقًا لا يشبه سواها.
 منذ صغرها، كانت تجذب الأنظار بشعرها المتماوج كألسنة اللهب، بعينيها اللتين تحويان أسرار البحر وعواصفه. لم تكن تخشى التحديق في الشمس، بل كانت تقف تحتها لساعات، كأنها تستمد قوتها من نورها، كأنها لم تُخلق إلا من ضوء ونار. لكن في أعماقها، كانت تحمل سرًا لم يجرؤ أحد على لمسه. فقد وُلدت بنبوءة غامضة، حكتها عجوز عمياء عند ولادتها، نبوءة قالت إنها ستكون "شعلة التغيير" في زمانٍ سيفقد فيه البشر نورهم. 
لطالما تجاهلتها، معتقدة أنها مجرد كلمات مجنونة من عجوز على حافة الموت. لكن الأيام أثبتت أن بعض الكلمات تحترق في القلب ولا تُمّحى. في إحدى الليالي، هاجمت القرية مجموعة من الغرباء، رجال بأقنعة سوداء، يحملون سيوفًا تلمع كأنها مسحوبة من أعماق الجحيم. لم يكن أحد مستعدًا.
 اشتعلت النيران في البيوت، وتعالى الصراخ في الأرجاء، لكنها لم تركض كما فعل الجميع، لم تهرب كما فُرض على النساء. وقفت في وسط العاصفة، شعرها يتطاير كأن الرياح تُراقصه، عيناها تومضان بتصميم لم يعرفه أحد من قبل. أمسكت بشعلة نارية من أقرب منزل مشتعل، رفعتها عاليًا كأنها تُعلن الحرب، ثم تقدمت. 
كانت وحدها في البداية، لكنها لم تبقَ كذلك. بدأ الناس يستعيدون شجاعتهم، بدأت القلوب تشتعل مثلها، وتحولت القرية بأكملها إلى عاصفة من النيران ضد أولئك الغزاة. لم يكن الانتصار سهلاً، لكنه كان محتومًا.
عندما انطفأت آخر شعلة في الأفق، نظرت إلى الأفق البعيد، إلى البحر الذي ظل يراقبها بصمت طوال حياتها. عرفت حينها أنها لم تعد مجرد فتاة منسية في قرية صغيرة، بل أصبحت قصة ستُحكى للأجيال، نارًا لا تُطفأ، واسمًا لا يُنسى. كانت ليانا، وكانت الشعلة التي غيرت كل شيء.

مجموعة قصصية  أم غادة الجم



القصة الثانية: حين تسكن الروحُ المدينة

 في مدينةٍ لا تنام، حيث الحجر يحفظ الأسرار، وتتنفس الأزقة عبق الأبدية، كانت القدس تقف شامخة، كأنها تتحدى الزمن وتُحادث الغيب. 
كانت قبة الصخرة تلمع في الليل كنبض قلب عاشق، ينبض رغم كل ما حوله من وجعٍ وصمت. لكن في تلك الليلة، لم تكن القدس وحدها... كانت هناك عيناها. ظهرت في السماء فوق القبة، كأنها طيف امرأة عاد من الذاكرة، أو ربما لم تغادر يومًا. عيناها مغمورتان بحنانٍ لا يُشبه الحنين، بل يشبه الوطن حين يحتضنك دون شرط، وشفتيها تميلان بابتسامة فيها كل أسرار العشاق والأنبياء. 
قال الناس إنها "روح المدينة"، التي هُجرت قديمًا، حين هجر الناس قلوبهم، لكن المدينة لم تنسها. كانت هي من قرأت ذات يوم في كتابها عن القدس، عن الجدار الذي بكى حين فقد ظلَّ امرأة، عن الزهرة التي سُقيت بالدمع فأنبتت وردةً حمراء فوق قلبها. كانت الروح تطوف كل ليلة، تُقبل القبة من السماء، وتُهدهد الجدران بكلمات لم يُسجلها التاريخ، لكنها محفوظة في ذاكرة المكان.
 كانت وردتها الحمراء تحملها على صدرها، لا ذابلة ولا يانعة، بل خالدة مثل القدس، مثل تلك العيون التي لا تزال تسأل: "متى نعود؟" وفي كل فجر، حين يذوب الطيف، وتُطفئ المدينة مصابيح الحنين، يبقى الأثر على القبة: ضوءٌ ليس من الشمس، ولا من المصابيح، بل من قلبٍ أحب القدس حتى صار منها.

بقلم أم غادة

ميعاد .. قصة قصيرة - ختام زاوي

 

ميعاد قصة قصيرة ختام زاوي

"اختار سلك الإيثرنت وحط ..مكانه  بين عمودين، مخالبه تتشبث برفق، هبت ريحٌ وتمايل، ثم تشبث أكثر. فجأة، شقشق ورفرف، وصوصوا، طار، حام، حوم، رفرف واقترب مني. حك منقاره على شاشة الكمبيوتر، ثم أرقد رأسه على رأسي. ثم نط مرة ثانية على السلك في نشوة.

السلك غير سميك، مثبت، متصل بالشبكة المحلية للمخبر. سلك صامت، لا يدل مظهره على شيء، لكنه في هذه اللحظة تتداول فيه عوالم وأكواد وإلكترونات وشحنات، فيه صفقات وعمليات تصفية ومؤامرات، وأراضٍ تُباع وأُخرى تُباد.

لم أقرأ فيه، طبعاً، هذا الجنون، فقد كان يملأ أسماع الدنيا دون محاكاة. اكتفيتُ بكتابة الكود في صفحة الويب، ولستُ أدري ما الذي كان يعجبني في هذا الطائر الفيلسوف.

أسميته 'صوصو'. صوته ينخر ذاكرتي، وعقلي لا يتحمل. كأن برمجة 'لوليتا' التي تسيطر على رأسي بدأت تتلاشى تدريجيا. 

سمعتُ أذانًا من مسجد مصحوبًا بتمتمات شخص يقود صلاة في الكنيسة، وعمت  الفوضى؛ فالمصابيح تهتز والأعلام تتطاير والمنارات مبعثرة، تحتها أجسام مرصوصة بألغام. شبكة من الشحنات السالبة تدخل المخبر، مما يُسبب اختلالًا في تقنية العنكبوت ويتسبب في انقطاع الكهرباء..

ظهرت كائنات رفيعة، طويلة، بغاية الحذق والنشاط، تلتف حول بعضها وتستدير وتتجمع. الآلات تتحول فجأة إلى كائنات حية، حيث يُداس أحدهم على قدم الآخر وتتزايد الهرولة، والعملية مهددة بالاختفاء من عالم الإنترنت. عشرات الأيادي تمتد لإصلاح العطب والأضواء القوية مسلطة تتيح للأعمى أن يرى ما شاء في أي وقت يشاء.

جزع كاد يذهب بعقول المبرمجين ..جزع كان يدفعهم لأن يصرخوا بأعلى صوت:

«مبارك أنت، يا الله إلهنا، ملك الكون، القاضي الحق»

"ברוך אתה ה' אלוהינו מלך העולם, דיין האמת."

 نور أحمر يتجه نحوي، والحمرة تطال المخبر وتمتد، حيث يصبح الزمن أحمر . الزمن يحترق، أشم رائحته ..رائحة جلد يحترق،

 جلد صوصو.

  إني  أرى تطاير الطلقات، برقًا وسحلا أثرها العميق والسريع.. صوصو يموت، قتلته الآلة الحارسة بكل حنق. 

 ما هذا المصير؟ 

و قفتُ في صفٍ طويلٍ أمام شباك الأمن الداخلي لشركة "ماتام" لتغيير درع الحماية الفوري. بسبب الثغرات ونقاط الضعف في التصميم، تسببت حادثة الأمس في شقّ الدرع وتعطيل أزرار التحكم في هيكلنا، مما أدى إلى توقف نظام المراقبة عن العمل. أصبح من الضروري حينها الوصول إلى "صيفر شاي" בית ספר ש"י "قاعة غسيل الدماغ"، وهو مكان فعلي تُستخدم فيه التكنولوجيا أو التقنيات العصبية لمحو الذكريات غير المرغوب فيها.

تمددتُ على مقعدٍ ملفوفٍ من كل حد ..عقاقير كيميائية ممزوجة في قوارير شفافة تخرج منها خيوط يُثبتها الكيميائي في كل نبضة من جسدي..

لكن في العادة، دائمًا ما يحدث شيء على الرغم من إرادتنا، حيث نخرج من ذواتنا ونصير مجرد أجسام تتحرك في المحيط المادي. تصعقني قوة عارمة من الماكينات الكهربائية، وتليها اندفاعات وصرخات واستغاثات، مثل صوت الهنود الحمر. يمضي الناس الروبوتات، غير مبالين بما يحدث من تصفية عرقية.

وأنا لا أفعلُ سوى شيء واحد، أسألُ نفسي دائمًا: لماذا أنا حية؟"

لم يمضِ الكثير من الوقت حتى انتهيت من عملية التفريغ.. كنت كالحشرة تحت المجهر، أو كقطعة نقدية، حقاً غريبة هذه الآلات، معقدة وغير مجدية أحيانًا. بسبب الخلل في شبكة الويب وانقطاعها المسبق، نخرت في أعماق الذاكرة وأعادتني بشرية لي أذنين وأنف وفم وأسنان، وقلب ينبض بالحياه

يا للعجب! مضى أسبوعٌ كاملٌ وأنا أتخبط في عالم المحسوسات، كأن إلهاماً قد برق في نفسي، بل كأن الطبيعة تطالبني بحق العصفور الشهيد. استيقظتُ، وترامت على كاهلي أخيلة الموت. الموت قريب على الدوام، وشعرتُ أنني بشر أتعرض للفناء كأوراق الشجر في مهب الريح."

"أجري في كل مكان، ناضرةً إلى كل شيء، باحثةً غير مستقرة، أتحسس المكان. اختفتْ عوالم الأكواد من هامشي، فتبدو كأنها غفوة حالمة في عالم موازٍ. وعلى هذا النحو، لقيتُ مصرعاً جديدًا لهذا الجسد الآلي، وارتقيتُ بالروح مثقلةً بالذكريات، ثم لطمتُ الأرض وأغمضتُ عيني وأنا في ترحالي إلى الماضي."

صادفتُ اليد الفاسقة التي اختطفتني من حضن أمي، زمجرت الأحناف وتلاقت الخصوم في نهاية المطاف، القنابل تغزو بيتنا البسيط، وعساكر مأجوجة تخوض عراكًا مع جنس آخر من البشر. خيّروني بين المشنقة والانضمام إليهم، ولا بد أن يهرب المرء ليس من أهوال ومعاناة الآخرين بل من الموت تجمداً.

 يمكن للمرء أن يشعر ويتوقع أن انقضاء الأعوام في الإبداع واختراع أساليب للتمرد على أرض ليست أرضهم ليس انتصاراً حقيقيًا كما يُظهرون، بل إيهامًا يعايش إيهامًا تمامًا، كما العمل الكوميدي الذي يفتقر إلى القدرة على التسلية، أو اللوحة التي يثير جانبها الأمامي الذهول والخلفي الذي يسعى لقتل الحق.


يبدو أن "صوصو" قد أخذ بثأره، فألهمني الحقيقة ودفعني للتنصل من قيود المبرمج المحتل، لأول مرة أستشعر الرحمة والتعاطف والشفقة، وأتذكر من أكون: أنا ابنة فلسطين، "ميعاد". تلك الفتاة التي كانت تبكي عشرين سنة في دهاليز الذاكرة، كانت تنفي سيفها في دموعها، وكما أطاعت اليهود وباعت روحها حتى يخيل لها أن العالم أجمع يقتتل في جسمها الثقيل. إنه الإحساس الأول الذي لا يشترى بروح الله في أعاليها.

 بدأ الدوام هذه الليلة مبكرًا، حيث يخططون لعملية سرية للتوسع نحو فلسطين أكثر، وقد بدؤوا باختراع ألوان جديدة من الصواريخ والمفرقعات. إنهم يستكشفون كل ضروب الرعب الكامنة في الحرب من أجل احتلال الأرض. كنتُ المبرمج العبقري رقم واحد في المختبر، حيث تدور كل حلقات الويب على شاشتي. يثنون على عبقريتي ولكن لا يملكون سوى هز الأكتاف، فأنا تجربة متطورة وخارقة للغاية. لم أدرك ذلك إلا بعد هذه المصادفة، وأصبحت الوحيدة القادرة على إحداث ضجة.

غيرت الحلقة الأخيرة من الكود ..اخترقت "قبة الحديد"

وقمت بتدميرها بشكل كامل..

أثار الموقف حنق رئيس الفريق وبلغني صوته ثائرا:

" لوليتا أيتها البقرة الفلسطينية"

 شعرت بالغيظ والخوف معا فقلت له وانا أرتجف : أنا مي..ميعاد..ميعاد!


فإنا أحييناه - نص ختام زاوي

 

فإنا أحييناه - ختام زاوي

حينما ضبط المنظر ..لم يكن قائد السجون "رفائيل "هو الذي غضب والتهبت الدماء في عروقه ..بل هو وحده الذي ضل السبيل للطلوع من تحت أجنحة المحتل ..حتى الجب كان مغموسا مترين تحت قالب الزنزانة أما طنطنة القائد فقد كانت مسموعة وهو ينذر القوم المكلوم تحت شظايا الإنفجار بأن ساعة النجاة من تحت الردم لا مناص منها أما ساعة الإعدام فإنها محتومة وكأنه يبحث عن حل كي يزيل عبء الشرور عن عاتقه ملتمسا العلل والمعاذير فقد  خاب ضميره و خلا قلبه من الحياة.

أما عبد الله فقد كان يقتات خيوط القنبلة الأخيرة من تحت التراب ويلملمها في الخفاء ضابطا نفسه عن البكاء على ساكني الزنزانة المجاورة الذين لا يعرفهم ولا يعرفونه .

ولكنهم عراة في مخيلته يملؤهم الخوف  والهلع  من نشوب القنابل المتتالية  أما الرغبة في المزيد منها فقد كانت محرقة ولم يكن الدم المهدور على الارض بخسارة ولكنه نداء الفرار من الإنتظار والتوجس أجبر الأرواح أن تتعقب الخلاص بلهفة ..وقد ربتت هذه الأسرار على كتف عبد الله .

شق عبد الله قميصه وربط يده اليمنى التي جرحتها شقوق الحفرة ولم يفرغ قلبه بعد من الحزن اللاذع الذي يفعمه إفعاما إلا أنه لم يضع لها مقاما وتفلت من الشيطان الذي  يوشك أن يلقيه ميتا .

فتمتم في نفسه:" لكن لا بد من بعض الشر ! لابد أن أمكر حتى أقصي دار العدو ولابد أن أكيد حتى تقصى سكينة المحتل المغرور! وما أيسر الكيد حين يطمئن له الضمير ..ولن أبلغ هذه الغاية التي أسمو إليها حتى أقتحم في سبيلها غمرات وأنال بها شهادة"

وإذا به يلقف آخر عبوة ويربط الفتيل بمقبض قصب طويل أما الأسلاك فقد تمددت ثم انتثرت حذوه ..بألوان فولاذية متفرقة لم يستطع تحصيلها فقد استحالت الرؤية في هذه الحفرة  الغائرة  حتى أنه  لا يكاد يسعى إليها حتى يشيع صوت الأشباح مختلطا بصوت الجرافات  وزفارات العدو المدوية فوق رأسه  ولابد أنهم أقاموا أسطولا كاملا  من الجيش باحثين عن اللص..

أخذه شئ من الذعر خوفا من عدم إتمام المهمة وكان يجب أن يبذل أكثر من القوة والجهد ومن الحيلة والذكاء ..وكأنه يجاهد قوة غير منظورة . وهذه هي الليلة التي رمقت منها الأجرام وكانت المعادلة.. وكأن التوازن بدا على أشده وكم كان يتمنى ان ينهي هذه المأمورية دون صراع   ..لكنه ارتد على حافة الشقوق 

..ثم تقلب على وجهه فانحسر طرف القميص على نصفه التحتاني ..فإذا به ينزلق في هوة أعمق ولم تدب بعد قدمه على الأرض حتى ضمر ونضب فجأة ولم  يبق منه سوى إرتفاع في الحرارة وسرعة في النبض.

ألصق خده  بالعبوة يستأنس بها و يضمها إليه وكأنها قد منحته سرا جديدا و هو أن يتحمل هذا الدور فقط بل إنها تجعله أيضا  عاجزا أن يتصور أي عواطف عامة ونبيلة وحنونة  ..

نهض عبد الله متثاقلا..خذلته يداه فانزلقت القنبلة وقد أصدرت عند ارتدادها إيقاعا مخلوقا من الطين و من الدم ..تحسس صوته واختلط معه  إحساس العجزبالجنون وتاهت به أحلام الحرية في متاهات الفن ..يواسي نصفه الحي وهو يلقي شعرا للمتنبي:

إذا اعتاد الفتى خوض المنايا         فأهون مايمر به الوحول

فرد عليه صوت مغمور في ثنايا الجب :

-الله معك يا برغوثي 

ذهب الذهول على المهندس وفارقه الوجوم واستقرت عيناه وهدأت واستقامت وانطلق لسانه بالحديث:

-غفار ! ..غفار ..!

-إني ونيسك الليلة..فاسترح

-لقد أنعمت علي بهذه الوديعة ..قل بالله عليك  ..كيف مررت بها وعبثت بعقل السجان؟!

-إن الفلسطنيين ينجحون متأخرا لكنهم يصلون في نهاية الأمر ..وإن التنوير في صفوف الأسرى ينتشر بالتدريج ..فلقد تم تفكيك العبوتين الي خمسة و عشرين قطعة على عدد الموقوفين وكل  واحد منهم قد وضع قطعة في أخمص قدميه كي لا ترى  وقد تم  تجميعها بالسر في  خزان المرحاض الخارجي ..وبالصدفة وصلت ..وبحكمة لا يعلمها أحد..

-إنها الفضيلة بعينها وأنه البذل الأعظم الذي ييدو أنه يستحق الجزاء الأسمى 

أردف غفار بصوت متحشرج وكأنه يقاوم الإغماء:

بل يجب أن ننظر إلى الأمر بتبجيل آخر..إن الجيل الأصغر –

سنا محظوظ  لأنه سيرى بعض الأشياء العظيمة.

فهمهم المهندس وهو يقول :أشعر أن الدين قد ولد من جديد..

أما هو فقد كان ينتظر الرد إلا أن الصوت قد علا وإختفى كالوهم فقد كان الردم بينه وبين غفار جسيما وكأن الزنزانة قد أطبقت عليهم بعدد مرات تفوق الخيال وإنزوى البئر العميق  خارج الكوكب ..لكنه كالعادة هم بالبحث عن العبوة يمينا وشمالا حتى لقيها وهتف وهو غارق في الاستبشار:

إنها القنبلة السابعة  والستون .. "ألابوغا " التي ستحولك يا رفائيل أنت وأتباعك إلى رماد..

وبكل ضجيج وصخب بدأت الجرافات تنحت طريقها وتقترب نحوهم وكانت عجلاتها تتدحرج بثقة وعزم  فجاء صوت غفار  كالنغم  :

"ثبت يا برغوثي..ثبتها وإضغط على الزر ..لا مزيد من الاستغفال فالكل ينتظر هذه اللحظة!!

أرجوك  لا تستغني عن الحرية !"

لحظة منفلتة .. قصة تماضر كريم

 تماضر كريم ( كاتبة من العراق).


لحظة منفلتة .. قصة تماضر كريم


الأمر بدأ بفكرةٍ مضحكة ، في لحظة منفلتة ، كانت تسكب الشاي في الأكواب بكلّ أريحية ، بعد أن وضعت كمية كبيرة من السكّر لابنتها و كمية متوسطة لزوجها و تركت كوبها بلا سكر ، حسنا ، ماذا لو أنهتٔ حياتها ، انفرجت شفتاها عن أسنان سليمة لامعة وهي تتخيل شكل عائلتها و أصدقائها بعد سماعهم النبأ، كادت تضحك بصوت عال ، لشدة غرابة الفكرة و استحالة وقوعها ، عندما حملت الأكواب بخفة، و بهجة قلّ نظيرها، انفجر السؤال بداخلها ( لم لا )؟ 

كثيرا ما أحب زوجها طريقتها في فعل الأشياء، لم يخبُ يوماً شعاع انبهاره بها ، حتى بعد عشر سنوات من الرِفقة  ، عندما حمل الشاي إلى شفتيه صدرت منه صيحة ، لقد احترق لسانه ، ضحكت بدلال و تهكّمت عليه ، ما لبث أن حلّ صمتٌ مفاجيء ، صمت غريب ، ثم خيم على قلبها إحساس عميق بالحزن ، وهي تشرب شايها المُر ، يا للعجب ، إنها تُمطر ، إنها زخة مطر عجولة غزيرة ، تطرق النوافذ بإلحاح واضح ، و ترسم على النوافذ خطوطا متعرجة و على الطرقات خرائط غامضة ، و الفكرة ذات الفكرة تومض في خيالها ، كيف تُنهي هذا الوجود .. هذا الكيان  ، لمَ قد تكون هذه الفكرة مستحيلة ، إنها قابلة للحصول ، فتحت خزانة ملابسها ، ألقت نظرة على كلّ شيء، الحقائب ، الحليّ ، علب التجميل ، هنا حاسوبها و أقلامها التي تختارها بعناية ، و دفاترها ، و مكتبتها ذات الرفوف شديدة الترتيب ، و الجدران التي تزينها اللوحات الباهضة و الصور التي تشرق بالبسمات ، كل شيء هنا يريد أن يعيش ، أن يدوم ، أن يعانق الصباح  كلّ يوم ، و يسهر مع النجوم كل ليلة ، لكنها لم تفهم ، لماذا كانت تشعر أنها تودّع كل أشياءها التي تحب ، كأنها تلوّح لها ، 

هل هي لعنة الفكرة التي باغتتها ؟ (نعم لمَ لا ؟ لم قد تكون تلك التفاصيل مهمة ، و تلك الأشياء ذات قيمة  ؟ ألم يكن أولئك الذين أنهوا حياتهم قبلي ، في لحظة ما مستغرقين في أيامهم بتفاصيلها الحلوة و المرة ، و ربما كانوا في أوقات ما يعيشونها بشغف كبير ، نعم ، أظن أن ضحكتي المبالغ فيها اليوم حول فكرتي المباغتة كانت سخافة لا أكثر ، فالأمر جاد ، إنه ليس مضحكا أبدا ) . أغلقت الخزانة ، و الكتاب الذي بقي مفتوحا على صفحة ما منذ ليلة ، نزعت الخواتم من أصابعها و باقي الحلي ، 

رفعت شعرها الطويل إلى الأعلى، عندما خرجت من غرفتها كانت قد وضعت خطة لتنفيذ فكرتها ، ذهبت  بثبات لتبدأ بالخطوة الأولى ، لكن صوت ابنتها أوقفها لوهلة ( ماما أين دفتر الرسم ..لم أعثر عليه في حقيبتي ) ،قالت لنفسها أن من ينوون عمل شيء مهم لن يثنيهم الأطفال عن ذلك ، الأطفال سبب عاطفتنا الزائدة و سبب ضعفنا ، كانت تفكر في ذلك وهي تبحث عن دفتر الرسم، تبا لدفتر الرسم، تحت السرير وجدته  بعد بحثٍ قصير، حملته بلا مبالاة إلى ابنتها ( لا تُلقي أشيائك هكذا ..لقد نبهتكِ مرارا )، أدهشتها فرحة ابنتها بدفتر الرسم ، ماذا سترسم الآن ؟ تبدو متحمسة ، 

لكن ماذا لو انتظرت قليلا ريثما تُنهي رسمتها، هذه الطفلة مذهلة في استعمال الألوان، نظرت إلى الأرض والسماء و البيت ذي النافذة الصغيرة و شجرة الرمان ، في لوحة ابنتها ، كان كل شيء كاملا هنا ، عدا الأشخاص ،إنهم مغيبون، حسنا تفعل، عالم بلا إنسان، هذا ما يجب أن نرسمه، لم تُظهِر ثناءً لابنتها ، كانت غارقة في تفاصيل اللوحة،( ماما  ماما هل هي جميلة )؟ 

كلّ ما  علينا فعله أن نتجاهل جمال الأشياء من حولنا، الأطفال ، لوحاتهم، الأصدقاء، الأيام القادمة ، التفاصيل الحلوة ، نكهات الشاي والقهوة مثلا ، طعم الكعك المحلى ، كل شيء.  ينبغي أن نكون شجعانا، الأشياء العظيمة تبدأ بفكرة، فكرة مضحكة أحيانا، صدقيني يا صغيرتي حتى لوحتك هذه لن تصمد أمامها ، حتى ابتسامتك، و رغبتك في الثناء، فقط لا تؤخري رجاء ما أريد البدء به !       

دموع تحت المصباح - أم غادة الجم

قصة قصيرة 

دموع تحت المصباح   - أم غادة الجم




لم يكن الليل عادياً تلك الليلة. كان الصمت متكتلاً في الزوايا، يتسلق الجدران كأنه مخلوق حي، يتنفس ببطء، يتأمل وجهها المرهق، وكتفيها المنهارتين. في الركن المعتم، بجوار الجدار البارد، انحنت روزا على جسد والدها المسجى على الأرض. لم تكن تبكي، لم تكن تصرخ، فقط كانت تسند رأسها فوق ساعديها، تحدق في الفراغ، كأنها تحاول أن تجد في العدم تفسيراً لكل شيء.

كل شيء انهار في لحظة واحدة. قبل ساعات فقط، كان والدها يبتسم رغم التجاعيد التي حفرتها الأيام على وجهه، ورغم الجهد الذي التهم ظهره، كان يقول لها: "الصباح دائماً يحمل شيئاً جديداً، لا تخافي من الليل يا صغيرتي." لكنها الآن وحدها، والليل يسخر منها، والمصابيح فوق رأسها تومض وكأنها تبكي معها.

تذكرت كيف بدأت الحكاية. جاء ذلك الرجل ذو القفازين السوداوين، لم يكن وجهه واضحاً تحت الظلال، لكنه كان يحمل شيئاً في يده. شيء صغير، لكنه كان كافياً ليمحو كل ما تبقى من أمل. الكلمة الوحيدة التي نطق بها قبل أن يختفي في الظلام كانت: "انتهى."

انتهى؟ ما الذي انتهى؟ لم يكن والدها سوى رجل بسيط، يعمل بيديه، يكافح ليضع الخبز على الطاولة. لم يكن له أعداء، لم يكن له أصدقاء حتى. فمن ذا الذي قرر أن يأخذ منه الحياة بهذه البساطة؟

لم تكن روزا تفكر في الانتقام، لم تكن تفكر في العدالة، فقط أرادت أن تتشبث بلحظة أخيرة، أن تحفظ ملامح والدها قبل أن يبتلعها النسيان. لكن الدموع خانتها، انسابت بصمت، وسقطت على يده الباردة، كأنها تحاول أن تعيده للحياة.

خارج الغرفة، كانت المدينة نائمة، كما لو أن العالم لم يفقد شيئاً، كما لو أن ضوء المصابيح المرتعشة لم يشهد انكسار روحٍ في العتمة.

بطاقات شعرية - أنس تاجديت

بطاقات شعرية    - أنس تاجديت





 

بطاقات شعرية   أنس تاجديت


بطاقات شعرية   أنس تاجديت



بطاقات شعرية   أنس تاجديت


بطاقات شعرية   أنس تاجديت