رحلة إلى أرواح مجهولة - بقلم حنين المهذبي

حنين المهذبي

حنين المهذبي



في طريقي للعودة إلى المنزل اليوم، استقللت الحافلة، وربما كان من المفترض أن أكون كأي راكبٍ آخر… مجرد جسدٍ في مقعد، لا أكثر ، لكنني لم أكن كأي راكبٍ آخر. كأنني عبرت فجأة إلى طبقة أعمق من الواقع… كأنني انسللتُ من جسدي، وجلستُ في مقعدٍ داخلي، أراقب الأرواح، لا الأجساد.
نظرتُ حولي، ولم أرَ ركّابًا… بل قرأتُ دواخلهم كما تُقرأ القصائد بصمتٍ خاشع.
امرأة على يساري، كانت تنظر من النافذة بنظرةٍ معلقة لا في الخارج ولا في الداخل. كان وجهها يقول كل شيء دون أن يتحرك، وكان صمتها ينزف تعبيرًا لا يحتاج إلى صوت.

شعرت بها تقول: "تعبت… لا من العمل فقط، بل من التظاهر بأنني بخير." في لحظتها، شعرت أن الضعف ليس عيبًا، بل حقيقةٌ تختبئ خلف جفنٍ نصف مغلق.
ثم كانت هناك شابة في الزاوية، وجهها ساكن، لكن في نظرتها شيء يشبه المرارة الصامتة. عينان مفتوحتان، لكنّهما لا تنظران لأحد، وكأنها غارقة في سؤالٍ قديم: "لماذا تبدو الحياة كأنها عقوبة؟"

تبدُو قوية، لكن من ينصت جيدًا لفمها المغلق، يسمع صراخًا هشًا يقول: "لا شيء على ما يُرام."
في المقعد المقابل، شاب يضحك بخفة مع فتاةٍ تجلس إلى جواره. ضحكته لم تكن فارغة… كانت صادقة، دافئة، فيها شيء من الامتنان. شعرت أنه يقول: "الحياة ثقيلة، لكنكِ تخففينها."

ضحك، ثم عاد إلى سكونٍ قصير، كأن الضحكة كانت استراحة مؤقتة من معركة طويلة.
ثم كان هناك رجل يتحدث بصوت مرتفع، يلوّح بيديه وهو يشرح شيئًا لصديقه، أو ربما لنفسه. لكن صوته لم يكن حادًّا، بل كأنه يريد فقط أن يُسمع… أن يُحسّ.

في داخله جوع عميق للانتباه، كأن وجوده نفسه لا يكتمل إلا عندما يلاحظه الآخرون.
ولوهلة… شعرت بشيء غريب. كأنني كنت الوحيدة التي تراهم فعلاً. كأنني النافذة الوحيدة المفتوحة على داخلهم. لم أكن راكبة… كنتُ مرآةً صغيرة تتجول بينهم، تعكس ما يحاولون إخفاءه.
جمعتنا الحافلة بالجسد، لكن كل واحدٍ منهم كان في جزيرته الخاصة، يغرق، أو يتنفس، أو يطفو بصمت.
كنت بينهم… لكنني لم أكن منهم. كأنني أُسقط ستار الواقع، وأدخل إلى ما تحت القشرة… أرى الإنسان كما هو: هشًّا، قويًّا، خائفًا، محبًّا، ومتعبًا في آنٍ واحد.
وأدركت حينها، أن كل لحظة عابرة، تحتوي على مجرّة كاملة من الشعور… فقط إن صمتنا قليلاً… وأنصتنا حقًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق