استحقاقية خرق التشريعات

استحقاقية خرق التشريعات


 بقلم: عبد الله جمعة المشايخي

خلال رحلة حياتي، أيقنت أن جل القوانين قابلة للاختراق. حتى إن أصحاب السبت خرقوا التشريع الإلهي بحيلة لتجاوز التحريم، الطالب يغشّ في الاختبار مستغلاً دهاءه دون أن يكشفه المعلم، رغم إدراكه بأن هذا الفعل قد يحرمه النجاح. لماذا يسعى الإنسان لخرق القانون رغم أنه وُجد لجعل حياته أكثر تنظيماً ؟ وهل استغلال الثغرات القانونية حق إنساني؟ وما تبعات مطاوعة القانون وفق المنظور البراغماتي؟

إذا ما أمعنا النظر في قصة أصحاب السبت، ستجد أنهم لم يخترقوا حرفية النص، بل روحه. أما عن الطالب الغشاش، فهو لا يخترق القانون بشكل مباشر، بل يلعب على حدوده، وقد يبرر فعله مستخدماً العبارة، "ما دمت لم أضبط فأنا لست مذنباً". كلتا الحالتين في المثالين السابقين لم تخترق القانون، بل تحايلتا عليه، وهذا هو جوهر الأمر. «المشكلة ليست في حرفية النص، بل في نية مستخدمه». فكم من تشريع سماوي حوله المجتمع إلى عبء يُثقل كاهل أفراده، وكم من قانون وضعي استغله القوي لأكل الضعيف.

يقول فرويد: «الممنوع يُثير الرغبة لا يُخمِدها». هنا نستطيع تفسير تجاوز أصحاب السبت للأمرالإلهي، حيث إن الرغبة كانت الصيد، والاستجابة كانت الحيلة، أما عن الطالب الغشاش، فهو يرغب في النجاح بلا جهد، وحين يُمنع من الطريق السهل، تتحايل رغبته على المنع فيولد الغش كاستجابة نفسية. رغبات الإنسان هي الركن الأساسي في تجاوز الخطوط الحمراء، وهذا ما يفسر تجاوزات فئة من الناس على القانون والتحايل عليه، مثل استغلال منفعة الباحثين عن عمل وذوي الإعاقة، فكم من شخص لم يكن يرغب في العمل  من الأساس ملأ جيبه من هذه المنفعة، وكم من شخص رزقه الله الصحة جعل من نفسه معاقا ليقبض دراهم معدودات.

هذه "الاستحقاقية" تحول الخرق إلى ما يُشبه الإنصاف الذاتي، وهذا ما يوحي للمتجاوز أن ما يفعله هو حق إنساني لا يمكن المساس به. من المؤكد أن المتجاوز وقع هنا في مغالطة الاحتكام إلى الذات، كونه يعتقد أن ما يناسبه، أو ما يراه صواباً من وجهة نظره الخاصة، يجب أن يكون صواباً موضوعياً أو عاماً.

البراغماتي يرى أن التحايل يعطيه شرعية الفعل من أجل مصلحته الشخصية، وإن تجاوز الشرع الإلهي، لذلك نراه يتعامل بالربا بغطاء إسلامي، حيث يتجاوز الأمر بدهاء متعمدا كسر حرمة الأمر دون خرق ظاهره. هذه الشخصية نراها تستغل نظام نسبة توطين الوظائف لتخترق كما هائلا من القوانين التي لا تتحملها الأسفار، ويطرد الموظفين مستغلّ قانون العمل الذي يعطي المؤسسة حقا في ذلك حين لا يتوافق أداء الموظف مع رؤية الشركة، وهو لا يطبق القانون لذلك، بل ليوظف شخصا جديداً براتب أقل.

التحايل على القانون ليس ذكاء، بل إعادة صياغة للجريمة على هيئة امتثال، وهذا ما يتسبب بضررعلى المستوى الفردي كعقوبة آنية أو متأخرة، ويؤثر على المجموعات كإرهاق الدولة مادياً عبر استغلال المنفعة، وزيادة نسبة البطالة عبر طرد الموظفين.

براءة "اللابوبو" وضياع الهوية

 

اللابوبو يفكّر.. إذن نحن ضائعون

براءة "اللابوبو" وضياع الهوية


وأنا أُحدق في كائن الـ"لابوبو" الشنيع، وجدت أن مفاهيم الجمال بدأت تتساقط من كل حدب وصوب في أرجاء روحي، وكأنّنا –جميعًا– نعيش حالة (إيكوبراكسيا) جماعية دون أن نعي.

لم أسكت عن شكوكي تلك، وهممت بفتح تحقيق بيني وبين جذوري.. عدت بدفء كثير – وسألت نفسي: هل ملاحقة "الترند" أمر فطري متجذّر فينا منذ الأزل، أم أنه حاجة أخرى، أعمق بكثير مما نُخفي؟

لم أجد حقيقة أوضح من أن "كل ما هو معروف بتطرف" إذ لم يسبق أن تواجد جمع بشري غفير، إلا وكانت النوائب حاضرة؛ بدءًا من أيام الغزوات، والحروب، والأوبئة، إلخ.

لم ينتج عن تجمعهم –المنقاد– سوى الخراب. واليوم، نعيش نسخة ناعمة من الطاعون: يُدعى "الترند". وكائن "اللابوبو" شرّ دليل على هذه الحقيقة: دميةٌ صارت رمزًا لفوضى القيم؛ تدخل بيت الزوجين فتُسرّع الطلاق، وتُلقى في أحضان الأبوين فتُثقل كاهلهما باسم "الموضة"، وتنتشر بين الشباب لا كوسيلة تسلية، بل كأداة لتفاخر ساذج.

إنها موجة جنون على أمر جنوني، تدل بلا شك على ضياع الهوية. فاليوم، نحن لا نسعى لشراء ما يحتضن سعاداتنا، بل نخلق من حاجات بالية احتياجات أولية.

أأمر مادي؟ أم نفسي؟ أم اجتماعي؟

في الحقيقة: كلّها معًا.

فالتطلّع إلى شراء شيء صغير بمبلغ كبير هو أمر مادي بامتياز؛ علاقة طردية بين حب الوصول وكثافة البذل.

لكن سببه اجتماعي، إذ يسعى صاحبه نحو الانتماء، في زمن –إلا من رحم ربي– نحيا فيه في تيه جماعي، بلا بوصلة ترشدنا إلى انتماء قويم.

غير أن الجذور، في عمقها، نفسية.

نعم، وإن أبينا الاعتراف، فـ"تأثير القطيع" لا ينبع إلا من فراغ داخلي، من وحدة لا يملؤها انتماء حقيقي، ومن نقص يدق طبول السخط وعدم الرضا بين حيّن وآخر.

فلا "الترند"، وقطعًا لا "اللابوبو"، هو من يُحرك الجموع لتتحشد أمام متاجر مادية لم يذق مرتادوها طعم التصالح مع الذات.

فلنُسقط التهم عن كائن "اللابوبو"،

 ولنبدأ – جديّا –  في تقييم حاجاتنا واحتياجاتنا، ولتكن وقفة صادقة نسأل فيها أنفسنا:  هل جذورنا راسخةٌ في الأرض،

أم أنّها تتمايل لاهية، مع كلّ هبّة ريح  ... حتى وإن لم تكن عاتية؟

أقونيطن: رواية الغوص في الذات والحدود بين الحقيقة والوهم

 أقونيطن: رواية الغوص في الذات والحدود بين الحقيقة والوهم



أقونيطن: رواية الغوص في الذات والحدود بين الحقيقة والوهم في حوار فكري ووجداني من جزأين على " من وراء الغلاف" ، أزاحت الكاتبة مريم نائل حنون الستار عن روايتها "أقونيطن"، التي تنتمي إلى الأدب النفسي الفلسفي وتُعدّ خروجًا جريئًا عن القوالب الروائية المعتادة. جاءت الرواية كمرآة تعكس أعماق النفس البشرية وصراعاتها الداخلية، وتطرح تساؤلات وجودية مقلقة ضمن بناء فني ينتمي إلى ما بعد الحداثة. 
 عنوان يستفز القارئ تبدأ حنون حديثها بتفسير عنوان الرواية الغريب، "أقونيطن"، مؤكدة أنه ليس مجرد زخرف لغوي، بل مفتاح رمزي لفهم العمل ككل. الكلمة الغامضة توحي بالغرابة والاختلاف، وتعكس عالمًا داخليًا متشظّيًا، ما يدفع القارئ إلى الغوص في المعنى بدل الاكتفاء بالسرد.
العنوان مفتاح رمزي لفهم الرواية وليس مجرد زخرف لغوي.
 موضوع الرواية: أزمة الذات وتشظي الهوية الرواية تنقل القارئ في رحلة نفسية مقلقة داخل أذهان أبطال يعانون اضطرابات كالفصام والوسواس القهري، لكن هذه المعاناة ليست سطحية، بل تغوص إلى عمق تساؤلات الإنسان حول ماهيته، وحقيقته، وعلاقته بالعالم. تدور الرواية حول تساؤلات كبرى: هل ما نعيشه واقع أم وهم؟ إلى أي مدى يشكّل المجتمع صورة الذات؟ وما حدود الشعور بالانفصال عن النفس؟
الرواية ليست وصفًا لأمراض نفسية، بل تساؤلات وجودية مغلّفة بالوجع.
  أسلوب ما بعد حداثي يكسر التقاليد لا تتبع "أقونيطن" المسار السردي التقليدي، بل تقدم بناءً سرديًا متشظّيًا، يُكسر فيه التسلسل الزمني، وتتعدد فيه الأصوات والمنظورات. الشخصية الرئيسية غير مستقرة، وتتأرجح بين الحلم والواقع، في محاولة لفهم ما يحدث داخلها وحولها. وقد استخدمت الكاتبة تقنيات مثل: التداعي الحر تداخل الأزمنة الرمزية الكثيفة مما يجعل الرواية تشبه إلى حد بعيد تيار الوعي الذاتي.
الرواية تبني عالمها عبر تفتّت الزمن وتعدد الأصوات لتترجم الهشاشة النفسية.
  الكتابة من عمق التجربة الشخصية تكشف مريم نائل حنون أن الرواية نابعة من تجربة نفسية عاشتها في الطفولة، عندما أحسّت بالانعزال والغرابة في عالم لم تستطع التأقلم معه. لكن التجربة الذاتية لم تتحوّل إلى سيرة، بل إلى عمل أدبي محمّل بالرموز والتأويلات.
"أقونيطن" هي صرخة داخلية مؤجلة، عبّرت عنها بلغة تعكس الألم والارتباك.
  القارئ ليس مستهلكًا... بل مشارك الكاتبة تؤمن بأن الرواية ليست منتجًا استهلاكيًا، بل تجربة فكرية وعاطفية تتطلب جهدًا من القارئ. وتوضح أن بعض القرّاء وجدوا العمل مربكًا، لكن هذا الإرباك مقصود، لأن الغاية ليست تقديم إجابات، بل إعادة طرح الأسئلة المنسية.
الكاتبة لا تبحث عن قارئ مُطمئن، بل عن قارئ يتألم ويفكّر معها.
  بين التأويلات النفسية والرمزية العديد من القرّاء والنقّاد قدّموا تفسيرات متعددة للرواية: بعضهم رأى فيها قراءة رمزية لحالة العزلة الحديثة، وبعضهم تعامل معها من منظور ديني أو وجودي. الكاتبة رحّبت بهذا التنوع، واعتبرته مؤشرًا على ثراء النص ومرونته.
كل قراءة للرواية مرآة للقارئ قبل أن تكون مرآة للنص.
  الكتابة كعلاج ذاتي وجماعي في نهاية الحوار، تصف حنون الكتابة بأنها عملية شفاء، لا لها فقط، بل لكل من يجد في الكلمات متنفسًا لألمه. فهي لا تكتب من أجل النشر فحسب، بل لتفريغ التوترات النفسية التي يصعب البوح بها علنًا.
الكتابة قد تكون اعترافًا... أو إنقاذًا... أو حتى نجاة مؤقتة.
  أقونيطن: مشروع روائي يتجاوز الأدب "أقونيطن" ليست رواية تقليدية تُقرأ ثم تُنسى، بل مشروع فكري وأدبي متكامل، يحاول تفكيك البنية النفسية للذات العربية المعاصرة. إنه عمل يربط الأدب بعلم النفس والفلسفة، ويجعل من الرواية أداة معرفية، لا مجرد متعة فنية.
الرواية تحوّل القلق الوجودي إلى مادة فنية.
    تُعد "أقونيطن" علامة فارقة في الأدب العربي النفسي الفلسفي، وتفتح أفقًا جديدًا للكتابة التي لا تهاب الغوص في المجهول. ومع بروز الكاتبة مريم نائل حنون، يبدو أننا أمام صوت أدبي جريء ومختلف، يستحق أن يُتابع عن كثب.


أمنية أوركيدية

 سلمى علي أبو فلاحة

كاتبة من الأردن

أمنية أوركيدية


أبحرتُ في محيط الأبجدية، أفتّش في زواياها عني، لعلّي أجد نفسي على متن إحدى بواخر الحبّ، تلك التي تحمل في جوفها قلوبًا هائمة بأرواحٍ ربما لم تختبر يومًا مثل هذا الشعور.
أيُّ إحساسٍ هذا حين تشتعل في داخلك لوعة لقاء شخصٍ مرَّ بممرات قلبك عابرًا، ثمّ دون وعيٍ أو استئذان، ولج الجناح الملكي في أعماقك، واستقرّ على العرش؟ لعلّه حينها كان مجرد ظلّ، لكنه لم يعد كذلك... أبدًا.

💜💜💜

وللصدق أقول: لم يستهوِني حين رأيتُه أول مرة. كان غليظَ اللفظ، حادَّ الملامح، وتحت جفنيه سيفان متقابلان، يتوسّطهما عقدٌ فاتنٌ كأنّه وُلد من رحم الغموض.
ربما كان ذلك بسبب المهام التي لا تنتهي من حوله، فلا أحمّله ذنبًا، حاشاه. وإنّ في قلبي خشيةً من تجاوز حدّي مع سيدِ هذا العرش، فمصيري حينها قد يكون الجنون، ويُلقى بي في سجن الغرام مدى الحياة.

💜💜💜

لحظة...! وهل هناك أجمل من أن أحمله داخلي كسرٍّ لا يشيخ، أن تُكبَّل حواسي فلا ترى سواه، فلا يسمع قلبي غير صدى أنفاسه؟
وذات مساء، جلستُ إلى مكتبي أدوّن شتاتي، فأطلّ بصري من نافذة غرفتي أتأمّل غروب الشمس أمامي. أغمضتُ عينيّ، وأسلمتُ روحي، فحلّقت معه عبر خيالٍ طالما تمنّيتُ لو أنّه يصبح يومًا حقيقة.

💜💜💜

كنّا هناك، سويًّا، نتحصّن في ظلّ شجرة سنديان إسبانيّة، تتهادى حولنا زقزقة العصافير، وتتماوج أنغامها مع خرير ماء البحيرة، ونسيمٌ عليل يراقص شعري الأجعد في حنوّ.
أما هو، فإلى جانبي، تغمره سكينة الرضا، يرتسم على وجهه المضيء ابتسامٌ قادرٌ على زلزلة قلبي، وإغراقه في فرحٍ طفولي.

💜💜💜

عيناه؟ كانتا تبعثان نورًا لا يُرى، إشعاعَ سعادةٍ لا يعرف الزيف، يسري في شراييني كأنه خلاص.
وآهٍ من سيفيهما المعلّقين... تعجز الحروف عن وصفهما، فمهما تغيّر الزمان، سأبقى عاشقة لهما.

💜💜💜

يقطع اختلاسي لنظراته الأخّاذة، حين يشير بيده نحو الشمس قائلًا: «أنظري، ما أجمل الغروب هناك!» فأنزاح ببصري مرغمة، إذ لا تودّ عيناي مفارقة وجهه الملائكي.
فتنسكب أشعة الشمس على شعري الأشقر، كأنها تُبارك لوني بلون الضوء. وحين لمح ذلك، نظر متحيّرًا إلى العشب من حولنا، ركض لبضع خطوات، ثم عاد بوردة أوركيد اقتطفها، غرسها بين خصلات شعري، وقال ضاحكًا: «الآن اكتملت لوحتي فائقة الجمال».

💜💜💜

أمسكتُ بيده، وتعالت ضحكاتنا، حتى خُيِّل إليّ أن العصافير والفراشات تنظر إلينا وقد امتلأت حبًّا ورقّة.
فتحتُ عينيّ، والغِبطة تختبئ في جوف قلبي ككنزٍ ثمين، التفتُّ إلى زهرات الأوركيد بجانب سريري، وقلت لها همسًا: آهٍ، لو أكون له… آهٍ، لو أنّه… لي.

هيجل والإسلام: أزمة الترتيب في فلسفة التاريخ

 

هيجل والإسلام: أزمة الترتيب في فلسفة التاريخ


حين نحاول أن نفهم علاقة الفيلسوف الألماني هيجل بالإسلام، فإننا لا ننظر فقط إلى رأي شخصي في دينٍ معين، بل إلى مأزق فلسفي عميق عاشه هيجل داخل نموذجه النظري عن التاريخ. هذا المأزق يتمثل في ما يُعرف بـ"التضارب الزمني" أو الاختلال في تسلسل الأحداث، وهو ما جعل ظهور الإسلام بعد المسيحية يشكل معضلة حقيقية داخل منظومة هيجل الفكرية.

هيجل ونموذج التاريخ "المثالي"

هيجل لم يكن مؤرخًا تقليديًا. لقد كان يؤمن أن التاريخ ليس فقط سلسلة من الأحداث، بل إنه تعبير عن تطور الروح أو العقل المطلق (Geist). كان يرى أن لكل مرحلة تاريخية معنى فلسفي، وأن الروح تتحرك عبر صراعات ومراحل، نحو الحرية والعقلانية الكاملة.

في هذا السياق، كان يرى في المسيحية الدين الأعلى، لأنه – حسب فهمه – عبّر عن الفكرة الكاملة للحرية: "الله يتجسد في الإنسان، أي أن الإنسان يحمل في ذاته الألوهية." وهنا، تصبح المسيحية هي النهاية المنطقية للتطور الديني، بحسب هيجل.

معضلة الإسلام: كيف جاء "بعد النهاية"؟

لكن المشكلة تبدأ حين يظهر الإسلام بعد المسيحية.
إذا كانت المسيحية تمثل المرحلة الأخيرة والنهائية في مسار تطور الروح الديني، فكيف يمكن للإسلام أن يظهر بعدها؟
هل الإسلام تراجع؟
أم تجاوز؟
أم استمرارية؟

الباحثة Sai Bhatawadekar تطرح هذا التساؤل صراحةً:

"إذا كانت المسيحية قد جاوزت الإسلام، فكيف لنا أن نفسر ظهور الإسلام بعد المسيحية؟"

أما Jean-Joseph Goux، فقد رأى أن التسلسل الذي نعرفه (موسى، عيسى، محمد) كان "معضلة حقيقية" بالنسبة لهيجل. والسبب أن الإسلام، وفقًا لهذا الترتيب، يأتي في خاتمة التاريخ الديني، بينما النموذج الهيجلي يريده أن يكون وسطًا أو تمهيدًا للمسيحية، لا تاليًا لها.

اقتراح جيجيك: إسلام ما بعد التثليث

الفيلسوف سلافوي جيجيك، المعروف بقراءاته الطريفة والجريئة، اقترح حلًا مثيرًا:
لماذا لا نترك الترتيب التاريخي كما هو؟
وبدلًا من اعتبار الإسلام "تراجعًا" عن المسيحية، يمكننا اعتباره مرحلة مجاوزة:

  • اليهودية = توحيد مباشر

  • المسيحية = تعقيد عبر التثليث

  • الإسلام = توحيد شامل يتجاوز التثليث

وبهذا، يصبح الإسلام عودة أعلى (sublation) للتوحيد، تتجاوز المسيحية دون أن تنكرها بالكامل.

لكن هل يوافق هيجل على هذا الترتيب؟ وهل يقبل أن الإسلام هو المجاوزة الحقيقية؟

اعتراض حبيب: المجاوزة الهجيلية لا تنطبق هنا

في مقاله المهم "هيجل والإسلام"، يعترض الباحث حبيب على قراءة جيجيك، رغم أنه يراها ذكية.
السبب؟ لأن مفهوم "المجاوزة" أو "Aufhebung" في فلسفة هيجل له شروط دقيقة:

  • أن يقطع مع المرحلة السابقة

  • أن يحتفظ بجوهرها في الوقت نفسه

فالمسيحية – في نظر هيجل – "تجاوزت" اليهودية لأنها احتفظت بفكرة الإله الواحد، وأضافت لها بعدًا إنسانيًا (التجسد، المحبة، الفداء...).
أما الإسلام، فهو في رأيه رفض لفكرة التجسد والتثليث، وبالتالي لا يمكن اعتباره مجاوزة حقيقية للمسيحية، لأنه لا "يحفظ" جوهرها، بل يرفضه.

وهكذا، تبقى قراءة جيجيك غير مقبولة تمامًا داخل النموذج الهيجلي، رغم طرافتها الفلسفية.

الفلسفة والتاريخ: حين يتعارض "النموذج" مع الواقع

تكمن المشكلة الأساسية في فلسفة هيجل التاريخية في هذا الفارق بين:

  • التاريخ كما وقع فعلاً (الإسلام جاء بعد المسيحية)

  • والتاريخ كما يجب أن يقع وفقًا للنموذج النظري (المسيحية يجب أن تكون الختام)

وهذا ما يفسر كثيرًا من تناقضات هيجل حين يتحدث عن الإسلام. فهو تارةً يمتدحه باعتباره دينًا عقلانيًا موحدًا، وتارةً يراه دينًا جامدًا لا يقبل التطور.
هذا التخبط ليس عشوائيًا، بل نابع من الصراع بين الواقع التاريخي وبين النموذج الفلسفي الذي يريد فرض ترتيب مثالي على مجرى الحياة.


مع هيجل، لا تكون الفلسفة مجرد تأملات، بل محاولة لفهم مسار التاريخ بوصفه حركة عقل. لكن حين لا يتطابق الواقع مع هذا التصور، تظهر التوترات والتناقضات.
وهذا تمامًا ما حدث في مسألة الإسلام:
ظهر الإسلام في غير مكانه، ليس لأن خطأً وقع، بل لأن النموذج نفسه لم يكن مرنًا بما يكفي لقبوله.

ربما علينا اليوم أن نعيد التفكير في تلك النماذج المغلقة، ونتعلم من هيجل أهمية السؤال، لا الاكتفاء بالإجابات الجاهزة.

ليوناردو دا فينشي: حين تتحوّل الصباغة إلى فلسفة

 

ليوناردو دا فينشي: حين تتحوّل الصباغة إلى فلسفة


 حين نتأمل شخصية ليوناردو دا فينشي، لا نراه مجرد رسّام أو عالم، بل مفكرًا عاشقًا للتفكير، يرى في الفن وسيلة لفهم الكون.

لم يكن الرسم عنده أداة للتزيين أو للتعبير الجمالي فحسب، بل كان فلسفة حية، كما عبّر عن ذلك الكاتب الفرنسي بول فاليري حين قال:

"ليوناردو رسام، وأعني بهذا أنه جعل من صباغته فلسفته... إنه يرد الأشياء كلها إلى الصباغة."

هذه الكلمات لا تصف فقط شغف ليوناردو، بل تكشف كيف كان يرى الرسم أداة لفهم العالم، تمامًا كما يستخدم الفيلسوف التأمل أو يستخدم العالم التجربة.

🟧 الصباغة كفلسفة  

كان ليوناردو يؤمن أن الرسم ليس مجرد محاكاة للطبيعة، بل هو وسيلة لاكتشاف القوانين التي تحكمها.
فحين يرسم جناح طائر أو عضلة في جسم إنسان، لا يفعل ذلك فقط لجمال الشكل، بل ليستكشف كيف يعمل الجسد، وكيف تتكامل الحركات، وكيف تتفاعل الأجزاء مع الكل.

ولهذا السبب، أمضى سنوات طويلة يدرس تشريح الإنسان، وفتح الجثث بنفسه ليرسم أدق تفاصيل القلب والدماغ والعظام.
كان يرى أن فهم الجسد شرط أساسي لفهم الحياة، وأن الفنان الحقيقي يجب أن يكون عالمًا أيضًا.

🟧 لوحة "العشاء الأخير": أكثر من مشهد ديني  

من أشهر أعمال ليوناردو لوحة العشاء الأخير، لكنها ليست مجرد مشهد ديني يروي لحظة من حياة المسيح.
في هذه اللوحة نرى كيف يستخدم ليوناردو الضوء والظل ليعبر عن المشاعر، وكيف يرتب الشخصيات بعناية ليجعلنا نشعر بالتوتر والدهشة التي حدثت بعد إعلان المسيح أن أحدهم سيخونه.

الرسم هنا ليس وصفًا، بل تحليل للموقف، وتعبير عن النفس البشرية في لحظة توتر أخلاقي.
هذه هي الفلسفة التي قصدها فاليري: تحويل الحدث إلى فكرة، وتحويل المشهد إلى سؤال مفتوح عن الطبيعة الإنسانية.

🟧 منهج علمي داخل الريشة 

أكثر ما يميز دا فينشي هو الدمج بين الفن والعلم.
كان لا يفرق بين التجربة العلمية والخيال الفني.
ففي دفاتره، نرى رسومات لأجهزة طيران وآلات هندسية، إلى جانب ملاحظات عن الضوء والمنظور والتشريح.

كان يؤمن أن الفنان الحقيقي لا يرسم فقط ما يراه، بل ما يفهمه، وأن الفهم لا يأتي إلا بالبحث والدراسة.

🟧 هل يمكن أن نكون مثل ليوناردو اليوم؟  

ربما يبدو ليوناردو شخصية نادرة في التاريخ، لكن فكرته عن الفن كطريق لفهم العالم لا تزال ملهمة اليوم.
في زمننا الذي يجمع بين التكنولوجيا والفن، يمكن لكل واحد منا أن يجد في مجاله الخاص فلسفته الخاصة، سواء كان ذلك في الكتابة أو التصميم أو البرمجة أو حتى الطبخ.

الرسالة التي يتركها لنا ليوناردو واضحة:
لا تكتفِ بممارسة مهنتك، بل اجعل منها طريقة لفهم الحياة.

🟧 صباغة الفكر 

حين "يتكلم ليوناردو صباغة كما يتكلم غيره فلسفة"، فإنه يدعونا لأن نعيد النظر في الفنون والمعرفة، وأن نكسر الحواجز بين التخصصات، وأن نرى في كل فعل إنساني طريقًا للتفكير.
وربما كان هذا هو سر عبقريته: أنه لم يضع حدودًا بين الفن والعلم، بل رأى في كليهما لغة لفهم العالم.

هوسرل وهايدغر: عندما تذكّرت الفلسفة أنها تعيش في العالم

 

"فلنعد إلى الأشياء ذاتها!" – إدموند هوسرل

في بداية القرن العشرين، شعرت الفلسفة بشيء من الغربة…
لقد قضت وقتًا طويلًا وهي تتحدث عن مفاهيم مجردة مثل "الجوهر"، "السببية"، و"الوجود"، لكنها نسيت شيئًا مهمًا جدًا: أننا نعيش، نشعر، نختبر، نحب، نخاف… وأن كل هذه التجارب اليومية تستحق أن تكون موضوعًا للفكر.

هوسرل وهايدغر: عندما تذكّرت الفلسفة أنها تعيش في العالم


هوسرل: نحو وصف نقي للوعي

في هذا السياق، جاء الفيلسوف إدموند هوسرل ليؤسس منهجًا جديدًا للفلسفة، سماه الفينومينولوجيا، أي: "علم الظواهر".
لكن ما معنى "الظواهر" هنا؟

ببساطة، الظاهرة هي كل ما يظهر أمام وعينا: عندما ترى تفاحة، أو تسمع لحنًا، أو تشعر بالخوف… كل هذه تجارب هي "ظواهر".

قال هوسرل:

"دعونا نعلّق كل أفكارنا المسبقة، وننظر إلى الشيء كما يُعطى لنا في التجربة."

مثلًا: عندما ترى شجرة، لا تفكر فورًا أنها "نبات أخضر يستعمل في البناء"، بل انظر إليها كما تراها الآن: ارتفاعها، ظلها، حركتها في الريح… ما تقدمه لك الوعي مباشرةً، قبل أن تفسره أو تحكم عليه.

بهذه الطريقة، أراد هوسرل أن يجعل الفلسفة مثل العلوم الدقيقة: تعتمد على الملاحظة المباشرة، لكنها هنا ملاحظة للوعي ذاته، لما نشعر ونفكر ونعيشه.

هايدغر: لسنا فقط وعيًا… نحن موجودون!

لكن تلميذ هوسرل، مارتن هايدغر، لم يقتنع بأن الإنسان يمكن اختزاله إلى مجرد "وعي".
قال: نحن لا نعيش في فراغ… نحن كائنات موجودة في عالم، نعيش فيه، ونتفاعل معه، ونقلق بشأنه.

سأل هايدغر:

"ما معنى أن نكون؟"
هذا هو السؤال الذي شعر أن الفلسفة نسيته منذ زمن أفلاطون.

بالنسبة لهايدغر، التجربة الأساسية ليست أن "أدرك شيئًا"، بل أن "أكون موجودًا" في هذا العالم.
مثلًا: عندما أمشي في شارع مظلم، لا ألاحظ فقط الأضواء والظلال… أنا أشعر بالقلق، بالخطر، بالوحدة.
هذه الحالة – أن أكون هناك، أعيش التجربة بقلقها وتفاصيلها – هي ما يهتم به هايدغر.

من وصف الظواهر… إلى صرخة وجودية

وهكذا تحوّلت الفينومينولوجيا مع هايدغر:
من وصف ما يظهر للوعي، إلى محاولة فهم الوجود نفسه.

قال هايدغر إن الفلسفة اليوم ليست بحاجة إلى مفاهيم ميتافيزيقية، بل إلى العودة إلى الحياة كما نعيشها:

  • كيف نشعر بالوقت؟

  • لماذا نخاف من الموت؟

  • ما معنى أن نكون أصيلين في خياراتنا؟

كل هذه الأسئلة ليست نظرية فقط، بل تمس كل شخص في عمق حياته.

خلاصة: لماذا يهمنا هذا اليوم؟

في عالم اليوم، حيث تسيطر السرعة والتقنية، وتصبح الحياة أكثر استهلاكًا وأقل تأملًا، تدعونا الفينومينولوجيا للعودة إلى التجربة الحيّة:
أن ننتبه لما نراه، لما نشعر به، لما نعيشه…

هوسرل يقول:

"توقّف، تأمّل، واصفُ ما يظهر لك كما هو."

وهايدغر يضيف:

"ولا تنسَ أنك كائن موجود، تسير نحو الموت، وتبحث عن معنى في عالم مضطرب."

ربما نحتاج اليوم إلى الاستماع لهذين الصوتين، لنفهم أنفسنا… والعالم.

مجموعة قصصية أم غادة الجم

مجموعة قصصية  أم غادة الجم


تاج الصمت 

في زقاق ضيق من أحياء المدينة القديمة، حيث يتداخل الحاضر مع عبق الماضي، وقفت زينب أمام مرآتها الخشبية المتشققة. تأملّت انعكاسها، ثم رفعت يديها برفق وثبّتت العمامة التي ورثتها عن جدتها، تلك التي حيكت بخيوط الصبر والكرامة. 
كانت ألوانها الزاهية تحكي قصة أجيال، كل طيّة فيها تحمل سرًا من أسرار النساء اللاتي سبقنها، وكل خيط يروي فصولًا من الألم، الفخر، والنجاة. مرّرت أصابعها فوق الخيوط الفضية المتشابكة بين القماش، لامست السلسلة المعدنية التي خطّها الزمن بلون الصدأ. تذكرت حين كانت طفلة، كيف كانت جدتها تروي لها عن "تاج الصمت"، كما أسمته. كانت تقول: "إنها ليست مجرد عمامة يا صغيرتي، بل درعٌ يحفظ تاريخنا، هويتنا، وأحلامنا التي لن تسقط أبدًا." كبرت زينب، وكبرت معها الحكايات التي خُبئت في طيات هذا القماش. 
في قريتها، كان الصمت لغة النساء، لكنه لم يكن استسلامًا، بل حكمةً مختبئة خلف نظراتهن العميقة. كنّ يتحدثن دون أن ينطقن، يكفي أن تلتقي العيون لتُقال القصائد، أن تتحرك الأصابع برقةٍ على الخد لتُكتب الروايات.
 في ذلك الصباح، حين قررت زينب أن ترتدي تاجها أمام الملأ، لم تكن مجرد فتاة أخرى تسير في الشوارع، بل كانت سليلَة إرثٍ عتيق، امرأة تقف بين شظايا الأمس وبدايات الغد. أضاءت خرزة العنبر المعلقة في أذنها كما لو أنها تحمل نبوءةً غير مكتوبة، وتلألأت حبات اللؤلؤ بين أصابعها كأنها تشهد على صمت النساء اللواتي حملن أحلامًا أكبر من أن تُحكى. خرجت إلى السوق، بخطوات هادئة لكن راسخة. لم تكن بحاجة لكلمات لتخبر الجميع من تكون. كانت عمامتها تحكي، عيناها تروي، وسكونها يصرخ بأعلى صوت:
"أنا هنا... وسأُسمعكم حكاية لم تعتادوا سماعها."

القصة الثانية: نيران القدر

 كانت تُدعى "ليانا"، وكأن اسمها وُلد مع النار التي تسكن عينيها وشعرها المتوهج. وُلدت في قرية على تخوم البحر، حيث الرياح تعصف بالرمال والناس يحكون عن أساطير البحّارة والأمواج التي تبتلع السفن. لم تكن كأي فتاة في قريتها، كانت مختلفة، وكأن القدر خطّ لها طريقًا لا يشبه سواها.
 منذ صغرها، كانت تجذب الأنظار بشعرها المتماوج كألسنة اللهب، بعينيها اللتين تحويان أسرار البحر وعواصفه. لم تكن تخشى التحديق في الشمس، بل كانت تقف تحتها لساعات، كأنها تستمد قوتها من نورها، كأنها لم تُخلق إلا من ضوء ونار. لكن في أعماقها، كانت تحمل سرًا لم يجرؤ أحد على لمسه. فقد وُلدت بنبوءة غامضة، حكتها عجوز عمياء عند ولادتها، نبوءة قالت إنها ستكون "شعلة التغيير" في زمانٍ سيفقد فيه البشر نورهم. 
لطالما تجاهلتها، معتقدة أنها مجرد كلمات مجنونة من عجوز على حافة الموت. لكن الأيام أثبتت أن بعض الكلمات تحترق في القلب ولا تُمّحى. في إحدى الليالي، هاجمت القرية مجموعة من الغرباء، رجال بأقنعة سوداء، يحملون سيوفًا تلمع كأنها مسحوبة من أعماق الجحيم. لم يكن أحد مستعدًا.
 اشتعلت النيران في البيوت، وتعالى الصراخ في الأرجاء، لكنها لم تركض كما فعل الجميع، لم تهرب كما فُرض على النساء. وقفت في وسط العاصفة، شعرها يتطاير كأن الرياح تُراقصه، عيناها تومضان بتصميم لم يعرفه أحد من قبل. أمسكت بشعلة نارية من أقرب منزل مشتعل، رفعتها عاليًا كأنها تُعلن الحرب، ثم تقدمت. 
كانت وحدها في البداية، لكنها لم تبقَ كذلك. بدأ الناس يستعيدون شجاعتهم، بدأت القلوب تشتعل مثلها، وتحولت القرية بأكملها إلى عاصفة من النيران ضد أولئك الغزاة. لم يكن الانتصار سهلاً، لكنه كان محتومًا.
عندما انطفأت آخر شعلة في الأفق، نظرت إلى الأفق البعيد، إلى البحر الذي ظل يراقبها بصمت طوال حياتها. عرفت حينها أنها لم تعد مجرد فتاة منسية في قرية صغيرة، بل أصبحت قصة ستُحكى للأجيال، نارًا لا تُطفأ، واسمًا لا يُنسى. كانت ليانا، وكانت الشعلة التي غيرت كل شيء.

مجموعة قصصية  أم غادة الجم



القصة الثانية: حين تسكن الروحُ المدينة

 في مدينةٍ لا تنام، حيث الحجر يحفظ الأسرار، وتتنفس الأزقة عبق الأبدية، كانت القدس تقف شامخة، كأنها تتحدى الزمن وتُحادث الغيب. 
كانت قبة الصخرة تلمع في الليل كنبض قلب عاشق، ينبض رغم كل ما حوله من وجعٍ وصمت. لكن في تلك الليلة، لم تكن القدس وحدها... كانت هناك عيناها. ظهرت في السماء فوق القبة، كأنها طيف امرأة عاد من الذاكرة، أو ربما لم تغادر يومًا. عيناها مغمورتان بحنانٍ لا يُشبه الحنين، بل يشبه الوطن حين يحتضنك دون شرط، وشفتيها تميلان بابتسامة فيها كل أسرار العشاق والأنبياء. 
قال الناس إنها "روح المدينة"، التي هُجرت قديمًا، حين هجر الناس قلوبهم، لكن المدينة لم تنسها. كانت هي من قرأت ذات يوم في كتابها عن القدس، عن الجدار الذي بكى حين فقد ظلَّ امرأة، عن الزهرة التي سُقيت بالدمع فأنبتت وردةً حمراء فوق قلبها. كانت الروح تطوف كل ليلة، تُقبل القبة من السماء، وتُهدهد الجدران بكلمات لم يُسجلها التاريخ، لكنها محفوظة في ذاكرة المكان.
 كانت وردتها الحمراء تحملها على صدرها، لا ذابلة ولا يانعة، بل خالدة مثل القدس، مثل تلك العيون التي لا تزال تسأل: "متى نعود؟" وفي كل فجر، حين يذوب الطيف، وتُطفئ المدينة مصابيح الحنين، يبقى الأثر على القبة: ضوءٌ ليس من الشمس، ولا من المصابيح، بل من قلبٍ أحب القدس حتى صار منها.

بقلم أم غادة

الدرس الفلسفي في الجزائر - محمد شوقي الزين

الدرس لفلسفي في الجزائر - محمد شوقي الزين



بدأ الدرس الفلسفي في الجزائر يعرف انتعاشاً ونموًّا على مستوى الكتابات والملتقيات، مع الجيل الجديد الذي حوَّل الشعار السقراطي وكيَّفه مع راهنه: «أكتُبْ لأراك!». تفطَّن الجيل الجديد بأن الدرس الفلسفي ينتعش ويتنوَّع بالكتابة. لكن، لم يجد بعد التوازن الكفيل بالارتقاء إلى كتابة صارمة ودقيقة تقول فحوى ما يشتغل عليه. ليس الغرض أن نكتب في نوعٍ من الإسهال الحرفي، بأن نكتب لأجل الكتابة ولا نعرف ماذا نكتب ولماذا نكتب على وجه التحديد. لم تجد الكتابة بعد عيارها ونقطة تسديدها، لم تجد معيارها الداخلي في ضبط الموضوع وصياغة الأهداف. بعض الكتابات هي تأمُّلات أو خواطر، في الغالب ذات نبرة صحفية أو وعظية. لكن هناك كتابات جادَّة، رغم أنها قليلة، تأخذ بالموضوع من النَّاصية، تعرف كيف تسير وإلى أين تسير، تُحسن ضبط إشكاليتها وصوغ أسئلتها وتحديد أهدافها. لا ضير في ذلك، لأن الجيل الجديد هو جيل شاب يتعوَّد على الكتابة مثل الحدَّاد في صهر الحديد وقولبة الأشكال. لا نزال ربما في طور هذه القولبة التي تأتي فيها الأشكال غير منتظمة أو تفتقر إلى القوَّة والإيحاء والرونق. لكن، رويداً رويداً، يتَّجه الدرس الفلسفي في الجزائر نحو نموّه ليبتغي النضج والاكتمال.
أعتقد أن في الجيل الجديد الذي أنتمي إليه كذلك، هناك الحاجة إلى الكتابة. ربما هو إيحاء دريدي، الذي ترك فينا أثراً كبيراً بحكم المولد والنشأة بالجزائر، يقول بأن قَدَر الجزائر الفلسفية أن تكتب. وبالفعل بدأت الجزائر تكتب «فلسفياً» بالزخم المرجوّ، وإن كانت الجزائر لم تتوقَّف عن الكتابة «روائياً وشعرياً». جاءت كذلك الحاجة إلى الكتابة للتنفيس عن جرح سنوات الإرهاب، والبحث عن دليل للخروج من النفق المظلم لسنوات العنف والدم. ترعرع وعي متنامي لدى الجيل الجديد بأن التماس الحقيقة التي تُصنع في أنطولوجيا الراهن بأنثروبولوجيا ما هو كائن، يمرُّ عبر أثر ملموس وهو الكتابة. كانت الفلسفة متأخرة بالمقارنة مع الهاجس نفسه الذي تمظهر في الرواية والسوسيولوجيا. لدينا روائيين كبار وسوسيولوجيين حدسيين يعرفون كيف يثقفون اللحظة الجزائرية في فرادتها ويترجمون ذلك إلى فرضيات بحث وإلى كتابة عالمة، لكن كنا نفتقر إلى فلاسفة يؤدُّون أدواراً مماثلة. بدأوا في البروز والتقدُّم التدريجي في أرضية جديدة عليهم، بكل النقائص والثغرات التي تتميَّز بها كتاباتهم، لكن لهم الإرادة في الولوج عميقاً في الأدغال ومحاولة فهم الطابع المعقَّد والملتبس للحظة الجزائرية. صحيح أن معظم الكتابات هي حول الفلسفة الغربية، لكن هذا لا يمنع ذاك، وهناك واجب التعلُّم ممن هم أكثر منا خبرة ونباهة. لا أنخرط في النقاش العقيم والجاف حول «علوم الأنا» و«علوم الآخر».
ليس للفكر عرق أو جنسية تستأثر به أمَّة أو هوية. يمكن أن نتعلَّم من جميع الفلسفات ونترجمها إلى لغتنا الخاصة لتتأقلم مع سياق أنطولوجيا الحاضر التي نعمل على بلورتها. يقول البعض: لكن لماذا ترجمة الآخر وتكييفه مع الأنا؟ لماذا لا نستخلص قوانيننا الثقافية من خصوصية تواجدنا في العالم؟ أقول لهؤلاء: بادروا بذلك! منذ أكثر من مئة سنة، كان هاجس الإصلاح على لسان شكيب أرسلان: «لماذا تأخَّر المسلمون ولماذا تقدَّم غيرهم؟». إذا لم يستطع أهل الإصلاح الإجابة عن هذا السؤال خلال مئة سنة، فلا أعتقد أن رواد ديارنا يمكنهم الإجابة عنه. ثم بماذا؟ يفتقرون إلى الأدوات وإلى الإطار النظري. من أين يجلبون الإطار النظري؟ كيف يستخلصونه؟ أعتقد أنه ينبغي تغيير زاوية الرؤية تماماً لنقول بأن العجز عن تشكيل نظرية حول خصوصية الأنا الثقافية مردُّه مشكلة هذا الأنا ذاته الذي قيَّد نفسه بتسويغية (casuistique) الممنوعات والمحظورات والعقل الفقهي الضيّق بإفقار الخيال الخلاَّق واسترسال المخيال بالولوج في الدقائق المملَّة والتفاصيل اللانهائية. لم يعُد خيالاً مركَّبًا وقابلاً للخلق والتوليد، وإنما أضحى نوعاً من المخيال الذي يتوهَّم (نظرية المؤامرة) والذي يغوص في التحليلات المبعثرة واللانهائية، هي «رد فعل» (réaction) و«بلبلة» (agitation) أكثر منها «فعلاً» (action) فاتحاً، سائلاً، سؤولاً ومسؤولاً. عندما نكون في أفق الوعظ والدعوة وهاجس الهوية والخصوصية، لا يمكننا التنظير، لأننا نفتقر إلى الخيال الخلاَّق، إلى المفهوم المركَّب، إلى الهدوء والانتباه. فنحن في حميَّة الانتماء وهاجس التمركز حول الخصوصية.
منذ تأسيسها سنة 2012، ساهمت «الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية» بوسائل مادية وتربوية وفكرية في تنشيط وتفعيل الدرس الفلسفي، بفروعها الولائية أولاً، بالمجتمع المدني ثانياً، وبمراكز البحث ودور الثقافة والجامعة أخيراً. في بضع سنين، صنعت الجمعية لنفسها مقاماً معلوماً يدفع بالفلسفة في الجزائر نحو الوجهة المرجوَّة وهي تنمية الحسّ النقدي والاعتباري، وتثمين الكتابة العالمة، وتخصيص منصَّات للكلام الحيّ والتبادل الفكري في شكل ملتقيات ومؤتمرات. لم تبقَ الجمعية على صعيد الأستاذية والأكاديمية، وإنما انفتحت أيضاً على البيداغوجيا بتخصيص دورات تعليمية لطلبة الباكالوريا، بتهيئتهم عملياً ونفسياً على مواجهة الامتحان وتقديم دروس نظرية وتطبيقية في كيفية تحليل النص الفلسفي ومعالجة المقالة الفلسفية وتدريب التلاميذ على الأدوات المنهجية والمشاركة في الفضاء العمومي بالرأي والرأي المختلف؛ فهي تعلّمهم كيف يفكّرون بذواتهم، لحظة سقراطية يُعاد من خلالها إنجاب الأفكار من بواطنهم. لم يتوقَّف الأمر عند التلاميذ، بل راهنت الجمعية كذلك على تدريب الناشئة من الأطفال على التفلسف، بتنظيم أيام تربوية يُحسن فيها الطفل الإصغاء إلى السؤال الذي يطلقه بعفوية، بأن يجد له الركيزة والدعامة ويعي هذا السؤال. لا يراه يُحلّق في السماء كالفراش، بل يصطاده ويعيد بلورته ليرى بأن سؤاله هو كينونته بالذات يريد امتحانها على محك الواقع وما هو مشهود أمامه. ساهمت «الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية»، ولا تزال تساهم برئيسها الدكتور عمر بوساحة وبكل أعضائها وفريقها الجاد والمجتهد، في تفعيل المشهد الثقافي ومصاحبة العمل الفكري نحو نضجه ومَدَدِه بمِدَاد كُتَّابها وامتدادات هياكلها ونشاطاتها.

- الأستاذ محمد شوقي الزين

ميعاد .. قصة قصيرة - ختام زاوي

 

ميعاد قصة قصيرة ختام زاوي

"اختار سلك الإيثرنت وحط ..مكانه  بين عمودين، مخالبه تتشبث برفق، هبت ريحٌ وتمايل، ثم تشبث أكثر. فجأة، شقشق ورفرف، وصوصوا، طار، حام، حوم، رفرف واقترب مني. حك منقاره على شاشة الكمبيوتر، ثم أرقد رأسه على رأسي. ثم نط مرة ثانية على السلك في نشوة.

السلك غير سميك، مثبت، متصل بالشبكة المحلية للمخبر. سلك صامت، لا يدل مظهره على شيء، لكنه في هذه اللحظة تتداول فيه عوالم وأكواد وإلكترونات وشحنات، فيه صفقات وعمليات تصفية ومؤامرات، وأراضٍ تُباع وأُخرى تُباد.

لم أقرأ فيه، طبعاً، هذا الجنون، فقد كان يملأ أسماع الدنيا دون محاكاة. اكتفيتُ بكتابة الكود في صفحة الويب، ولستُ أدري ما الذي كان يعجبني في هذا الطائر الفيلسوف.

أسميته 'صوصو'. صوته ينخر ذاكرتي، وعقلي لا يتحمل. كأن برمجة 'لوليتا' التي تسيطر على رأسي بدأت تتلاشى تدريجيا. 

سمعتُ أذانًا من مسجد مصحوبًا بتمتمات شخص يقود صلاة في الكنيسة، وعمت  الفوضى؛ فالمصابيح تهتز والأعلام تتطاير والمنارات مبعثرة، تحتها أجسام مرصوصة بألغام. شبكة من الشحنات السالبة تدخل المخبر، مما يُسبب اختلالًا في تقنية العنكبوت ويتسبب في انقطاع الكهرباء..

ظهرت كائنات رفيعة، طويلة، بغاية الحذق والنشاط، تلتف حول بعضها وتستدير وتتجمع. الآلات تتحول فجأة إلى كائنات حية، حيث يُداس أحدهم على قدم الآخر وتتزايد الهرولة، والعملية مهددة بالاختفاء من عالم الإنترنت. عشرات الأيادي تمتد لإصلاح العطب والأضواء القوية مسلطة تتيح للأعمى أن يرى ما شاء في أي وقت يشاء.

جزع كاد يذهب بعقول المبرمجين ..جزع كان يدفعهم لأن يصرخوا بأعلى صوت:

«مبارك أنت، يا الله إلهنا، ملك الكون، القاضي الحق»

"ברוך אתה ה' אלוהינו מלך העולם, דיין האמת."

 نور أحمر يتجه نحوي، والحمرة تطال المخبر وتمتد، حيث يصبح الزمن أحمر . الزمن يحترق، أشم رائحته ..رائحة جلد يحترق،

 جلد صوصو.

  إني  أرى تطاير الطلقات، برقًا وسحلا أثرها العميق والسريع.. صوصو يموت، قتلته الآلة الحارسة بكل حنق. 

 ما هذا المصير؟ 

و قفتُ في صفٍ طويلٍ أمام شباك الأمن الداخلي لشركة "ماتام" لتغيير درع الحماية الفوري. بسبب الثغرات ونقاط الضعف في التصميم، تسببت حادثة الأمس في شقّ الدرع وتعطيل أزرار التحكم في هيكلنا، مما أدى إلى توقف نظام المراقبة عن العمل. أصبح من الضروري حينها الوصول إلى "صيفر شاي" בית ספר ש"י "قاعة غسيل الدماغ"، وهو مكان فعلي تُستخدم فيه التكنولوجيا أو التقنيات العصبية لمحو الذكريات غير المرغوب فيها.

تمددتُ على مقعدٍ ملفوفٍ من كل حد ..عقاقير كيميائية ممزوجة في قوارير شفافة تخرج منها خيوط يُثبتها الكيميائي في كل نبضة من جسدي..

لكن في العادة، دائمًا ما يحدث شيء على الرغم من إرادتنا، حيث نخرج من ذواتنا ونصير مجرد أجسام تتحرك في المحيط المادي. تصعقني قوة عارمة من الماكينات الكهربائية، وتليها اندفاعات وصرخات واستغاثات، مثل صوت الهنود الحمر. يمضي الناس الروبوتات، غير مبالين بما يحدث من تصفية عرقية.

وأنا لا أفعلُ سوى شيء واحد، أسألُ نفسي دائمًا: لماذا أنا حية؟"

لم يمضِ الكثير من الوقت حتى انتهيت من عملية التفريغ.. كنت كالحشرة تحت المجهر، أو كقطعة نقدية، حقاً غريبة هذه الآلات، معقدة وغير مجدية أحيانًا. بسبب الخلل في شبكة الويب وانقطاعها المسبق، نخرت في أعماق الذاكرة وأعادتني بشرية لي أذنين وأنف وفم وأسنان، وقلب ينبض بالحياه

يا للعجب! مضى أسبوعٌ كاملٌ وأنا أتخبط في عالم المحسوسات، كأن إلهاماً قد برق في نفسي، بل كأن الطبيعة تطالبني بحق العصفور الشهيد. استيقظتُ، وترامت على كاهلي أخيلة الموت. الموت قريب على الدوام، وشعرتُ أنني بشر أتعرض للفناء كأوراق الشجر في مهب الريح."

"أجري في كل مكان، ناضرةً إلى كل شيء، باحثةً غير مستقرة، أتحسس المكان. اختفتْ عوالم الأكواد من هامشي، فتبدو كأنها غفوة حالمة في عالم موازٍ. وعلى هذا النحو، لقيتُ مصرعاً جديدًا لهذا الجسد الآلي، وارتقيتُ بالروح مثقلةً بالذكريات، ثم لطمتُ الأرض وأغمضتُ عيني وأنا في ترحالي إلى الماضي."

صادفتُ اليد الفاسقة التي اختطفتني من حضن أمي، زمجرت الأحناف وتلاقت الخصوم في نهاية المطاف، القنابل تغزو بيتنا البسيط، وعساكر مأجوجة تخوض عراكًا مع جنس آخر من البشر. خيّروني بين المشنقة والانضمام إليهم، ولا بد أن يهرب المرء ليس من أهوال ومعاناة الآخرين بل من الموت تجمداً.

 يمكن للمرء أن يشعر ويتوقع أن انقضاء الأعوام في الإبداع واختراع أساليب للتمرد على أرض ليست أرضهم ليس انتصاراً حقيقيًا كما يُظهرون، بل إيهامًا يعايش إيهامًا تمامًا، كما العمل الكوميدي الذي يفتقر إلى القدرة على التسلية، أو اللوحة التي يثير جانبها الأمامي الذهول والخلفي الذي يسعى لقتل الحق.


يبدو أن "صوصو" قد أخذ بثأره، فألهمني الحقيقة ودفعني للتنصل من قيود المبرمج المحتل، لأول مرة أستشعر الرحمة والتعاطف والشفقة، وأتذكر من أكون: أنا ابنة فلسطين، "ميعاد". تلك الفتاة التي كانت تبكي عشرين سنة في دهاليز الذاكرة، كانت تنفي سيفها في دموعها، وكما أطاعت اليهود وباعت روحها حتى يخيل لها أن العالم أجمع يقتتل في جسمها الثقيل. إنه الإحساس الأول الذي لا يشترى بروح الله في أعاليها.

 بدأ الدوام هذه الليلة مبكرًا، حيث يخططون لعملية سرية للتوسع نحو فلسطين أكثر، وقد بدؤوا باختراع ألوان جديدة من الصواريخ والمفرقعات. إنهم يستكشفون كل ضروب الرعب الكامنة في الحرب من أجل احتلال الأرض. كنتُ المبرمج العبقري رقم واحد في المختبر، حيث تدور كل حلقات الويب على شاشتي. يثنون على عبقريتي ولكن لا يملكون سوى هز الأكتاف، فأنا تجربة متطورة وخارقة للغاية. لم أدرك ذلك إلا بعد هذه المصادفة، وأصبحت الوحيدة القادرة على إحداث ضجة.

غيرت الحلقة الأخيرة من الكود ..اخترقت "قبة الحديد"

وقمت بتدميرها بشكل كامل..

أثار الموقف حنق رئيس الفريق وبلغني صوته ثائرا:

" لوليتا أيتها البقرة الفلسطينية"

 شعرت بالغيظ والخوف معا فقلت له وانا أرتجف : أنا مي..ميعاد..ميعاد!


فإنا أحييناه - نص ختام زاوي

 

فإنا أحييناه - ختام زاوي

حينما ضبط المنظر ..لم يكن قائد السجون "رفائيل "هو الذي غضب والتهبت الدماء في عروقه ..بل هو وحده الذي ضل السبيل للطلوع من تحت أجنحة المحتل ..حتى الجب كان مغموسا مترين تحت قالب الزنزانة أما طنطنة القائد فقد كانت مسموعة وهو ينذر القوم المكلوم تحت شظايا الإنفجار بأن ساعة النجاة من تحت الردم لا مناص منها أما ساعة الإعدام فإنها محتومة وكأنه يبحث عن حل كي يزيل عبء الشرور عن عاتقه ملتمسا العلل والمعاذير فقد  خاب ضميره و خلا قلبه من الحياة.

أما عبد الله فقد كان يقتات خيوط القنبلة الأخيرة من تحت التراب ويلملمها في الخفاء ضابطا نفسه عن البكاء على ساكني الزنزانة المجاورة الذين لا يعرفهم ولا يعرفونه .

ولكنهم عراة في مخيلته يملؤهم الخوف  والهلع  من نشوب القنابل المتتالية  أما الرغبة في المزيد منها فقد كانت محرقة ولم يكن الدم المهدور على الارض بخسارة ولكنه نداء الفرار من الإنتظار والتوجس أجبر الأرواح أن تتعقب الخلاص بلهفة ..وقد ربتت هذه الأسرار على كتف عبد الله .

شق عبد الله قميصه وربط يده اليمنى التي جرحتها شقوق الحفرة ولم يفرغ قلبه بعد من الحزن اللاذع الذي يفعمه إفعاما إلا أنه لم يضع لها مقاما وتفلت من الشيطان الذي  يوشك أن يلقيه ميتا .

فتمتم في نفسه:" لكن لا بد من بعض الشر ! لابد أن أمكر حتى أقصي دار العدو ولابد أن أكيد حتى تقصى سكينة المحتل المغرور! وما أيسر الكيد حين يطمئن له الضمير ..ولن أبلغ هذه الغاية التي أسمو إليها حتى أقتحم في سبيلها غمرات وأنال بها شهادة"

وإذا به يلقف آخر عبوة ويربط الفتيل بمقبض قصب طويل أما الأسلاك فقد تمددت ثم انتثرت حذوه ..بألوان فولاذية متفرقة لم يستطع تحصيلها فقد استحالت الرؤية في هذه الحفرة  الغائرة  حتى أنه  لا يكاد يسعى إليها حتى يشيع صوت الأشباح مختلطا بصوت الجرافات  وزفارات العدو المدوية فوق رأسه  ولابد أنهم أقاموا أسطولا كاملا  من الجيش باحثين عن اللص..

أخذه شئ من الذعر خوفا من عدم إتمام المهمة وكان يجب أن يبذل أكثر من القوة والجهد ومن الحيلة والذكاء ..وكأنه يجاهد قوة غير منظورة . وهذه هي الليلة التي رمقت منها الأجرام وكانت المعادلة.. وكأن التوازن بدا على أشده وكم كان يتمنى ان ينهي هذه المأمورية دون صراع   ..لكنه ارتد على حافة الشقوق 

..ثم تقلب على وجهه فانحسر طرف القميص على نصفه التحتاني ..فإذا به ينزلق في هوة أعمق ولم تدب بعد قدمه على الأرض حتى ضمر ونضب فجأة ولم  يبق منه سوى إرتفاع في الحرارة وسرعة في النبض.

ألصق خده  بالعبوة يستأنس بها و يضمها إليه وكأنها قد منحته سرا جديدا و هو أن يتحمل هذا الدور فقط بل إنها تجعله أيضا  عاجزا أن يتصور أي عواطف عامة ونبيلة وحنونة  ..

نهض عبد الله متثاقلا..خذلته يداه فانزلقت القنبلة وقد أصدرت عند ارتدادها إيقاعا مخلوقا من الطين و من الدم ..تحسس صوته واختلط معه  إحساس العجزبالجنون وتاهت به أحلام الحرية في متاهات الفن ..يواسي نصفه الحي وهو يلقي شعرا للمتنبي:

إذا اعتاد الفتى خوض المنايا         فأهون مايمر به الوحول

فرد عليه صوت مغمور في ثنايا الجب :

-الله معك يا برغوثي 

ذهب الذهول على المهندس وفارقه الوجوم واستقرت عيناه وهدأت واستقامت وانطلق لسانه بالحديث:

-غفار ! ..غفار ..!

-إني ونيسك الليلة..فاسترح

-لقد أنعمت علي بهذه الوديعة ..قل بالله عليك  ..كيف مررت بها وعبثت بعقل السجان؟!

-إن الفلسطنيين ينجحون متأخرا لكنهم يصلون في نهاية الأمر ..وإن التنوير في صفوف الأسرى ينتشر بالتدريج ..فلقد تم تفكيك العبوتين الي خمسة و عشرين قطعة على عدد الموقوفين وكل  واحد منهم قد وضع قطعة في أخمص قدميه كي لا ترى  وقد تم  تجميعها بالسر في  خزان المرحاض الخارجي ..وبالصدفة وصلت ..وبحكمة لا يعلمها أحد..

-إنها الفضيلة بعينها وأنه البذل الأعظم الذي ييدو أنه يستحق الجزاء الأسمى 

أردف غفار بصوت متحشرج وكأنه يقاوم الإغماء:

بل يجب أن ننظر إلى الأمر بتبجيل آخر..إن الجيل الأصغر –

سنا محظوظ  لأنه سيرى بعض الأشياء العظيمة.

فهمهم المهندس وهو يقول :أشعر أن الدين قد ولد من جديد..

أما هو فقد كان ينتظر الرد إلا أن الصوت قد علا وإختفى كالوهم فقد كان الردم بينه وبين غفار جسيما وكأن الزنزانة قد أطبقت عليهم بعدد مرات تفوق الخيال وإنزوى البئر العميق  خارج الكوكب ..لكنه كالعادة هم بالبحث عن العبوة يمينا وشمالا حتى لقيها وهتف وهو غارق في الاستبشار:

إنها القنبلة السابعة  والستون .. "ألابوغا " التي ستحولك يا رفائيل أنت وأتباعك إلى رماد..

وبكل ضجيج وصخب بدأت الجرافات تنحت طريقها وتقترب نحوهم وكانت عجلاتها تتدحرج بثقة وعزم  فجاء صوت غفار  كالنغم  :

"ثبت يا برغوثي..ثبتها وإضغط على الزر ..لا مزيد من الاستغفال فالكل ينتظر هذه اللحظة!!

أرجوك  لا تستغني عن الحرية !"

لحظة منفلتة .. قصة تماضر كريم

 تماضر كريم ( كاتبة من العراق).


لحظة منفلتة .. قصة تماضر كريم


الأمر بدأ بفكرةٍ مضحكة ، في لحظة منفلتة ، كانت تسكب الشاي في الأكواب بكلّ أريحية ، بعد أن وضعت كمية كبيرة من السكّر لابنتها و كمية متوسطة لزوجها و تركت كوبها بلا سكر ، حسنا ، ماذا لو أنهتٔ حياتها ، انفرجت شفتاها عن أسنان سليمة لامعة وهي تتخيل شكل عائلتها و أصدقائها بعد سماعهم النبأ، كادت تضحك بصوت عال ، لشدة غرابة الفكرة و استحالة وقوعها ، عندما حملت الأكواب بخفة، و بهجة قلّ نظيرها، انفجر السؤال بداخلها ( لم لا )؟ 

كثيرا ما أحب زوجها طريقتها في فعل الأشياء، لم يخبُ يوماً شعاع انبهاره بها ، حتى بعد عشر سنوات من الرِفقة  ، عندما حمل الشاي إلى شفتيه صدرت منه صيحة ، لقد احترق لسانه ، ضحكت بدلال و تهكّمت عليه ، ما لبث أن حلّ صمتٌ مفاجيء ، صمت غريب ، ثم خيم على قلبها إحساس عميق بالحزن ، وهي تشرب شايها المُر ، يا للعجب ، إنها تُمطر ، إنها زخة مطر عجولة غزيرة ، تطرق النوافذ بإلحاح واضح ، و ترسم على النوافذ خطوطا متعرجة و على الطرقات خرائط غامضة ، و الفكرة ذات الفكرة تومض في خيالها ، كيف تُنهي هذا الوجود .. هذا الكيان  ، لمَ قد تكون هذه الفكرة مستحيلة ، إنها قابلة للحصول ، فتحت خزانة ملابسها ، ألقت نظرة على كلّ شيء، الحقائب ، الحليّ ، علب التجميل ، هنا حاسوبها و أقلامها التي تختارها بعناية ، و دفاترها ، و مكتبتها ذات الرفوف شديدة الترتيب ، و الجدران التي تزينها اللوحات الباهضة و الصور التي تشرق بالبسمات ، كل شيء هنا يريد أن يعيش ، أن يدوم ، أن يعانق الصباح  كلّ يوم ، و يسهر مع النجوم كل ليلة ، لكنها لم تفهم ، لماذا كانت تشعر أنها تودّع كل أشياءها التي تحب ، كأنها تلوّح لها ، 

هل هي لعنة الفكرة التي باغتتها ؟ (نعم لمَ لا ؟ لم قد تكون تلك التفاصيل مهمة ، و تلك الأشياء ذات قيمة  ؟ ألم يكن أولئك الذين أنهوا حياتهم قبلي ، في لحظة ما مستغرقين في أيامهم بتفاصيلها الحلوة و المرة ، و ربما كانوا في أوقات ما يعيشونها بشغف كبير ، نعم ، أظن أن ضحكتي المبالغ فيها اليوم حول فكرتي المباغتة كانت سخافة لا أكثر ، فالأمر جاد ، إنه ليس مضحكا أبدا ) . أغلقت الخزانة ، و الكتاب الذي بقي مفتوحا على صفحة ما منذ ليلة ، نزعت الخواتم من أصابعها و باقي الحلي ، 

رفعت شعرها الطويل إلى الأعلى، عندما خرجت من غرفتها كانت قد وضعت خطة لتنفيذ فكرتها ، ذهبت  بثبات لتبدأ بالخطوة الأولى ، لكن صوت ابنتها أوقفها لوهلة ( ماما أين دفتر الرسم ..لم أعثر عليه في حقيبتي ) ،قالت لنفسها أن من ينوون عمل شيء مهم لن يثنيهم الأطفال عن ذلك ، الأطفال سبب عاطفتنا الزائدة و سبب ضعفنا ، كانت تفكر في ذلك وهي تبحث عن دفتر الرسم، تبا لدفتر الرسم، تحت السرير وجدته  بعد بحثٍ قصير، حملته بلا مبالاة إلى ابنتها ( لا تُلقي أشيائك هكذا ..لقد نبهتكِ مرارا )، أدهشتها فرحة ابنتها بدفتر الرسم ، ماذا سترسم الآن ؟ تبدو متحمسة ، 

لكن ماذا لو انتظرت قليلا ريثما تُنهي رسمتها، هذه الطفلة مذهلة في استعمال الألوان، نظرت إلى الأرض والسماء و البيت ذي النافذة الصغيرة و شجرة الرمان ، في لوحة ابنتها ، كان كل شيء كاملا هنا ، عدا الأشخاص ،إنهم مغيبون، حسنا تفعل، عالم بلا إنسان، هذا ما يجب أن نرسمه، لم تُظهِر ثناءً لابنتها ، كانت غارقة في تفاصيل اللوحة،( ماما  ماما هل هي جميلة )؟ 

كلّ ما  علينا فعله أن نتجاهل جمال الأشياء من حولنا، الأطفال ، لوحاتهم، الأصدقاء، الأيام القادمة ، التفاصيل الحلوة ، نكهات الشاي والقهوة مثلا ، طعم الكعك المحلى ، كل شيء.  ينبغي أن نكون شجعانا، الأشياء العظيمة تبدأ بفكرة، فكرة مضحكة أحيانا، صدقيني يا صغيرتي حتى لوحتك هذه لن تصمد أمامها ، حتى ابتسامتك، و رغبتك في الثناء، فقط لا تؤخري رجاء ما أريد البدء به !       

دموع تحت المصباح - أم غادة الجم

قصة قصيرة 

دموع تحت المصباح   - أم غادة الجم




لم يكن الليل عادياً تلك الليلة. كان الصمت متكتلاً في الزوايا، يتسلق الجدران كأنه مخلوق حي، يتنفس ببطء، يتأمل وجهها المرهق، وكتفيها المنهارتين. في الركن المعتم، بجوار الجدار البارد، انحنت روزا على جسد والدها المسجى على الأرض. لم تكن تبكي، لم تكن تصرخ، فقط كانت تسند رأسها فوق ساعديها، تحدق في الفراغ، كأنها تحاول أن تجد في العدم تفسيراً لكل شيء.

كل شيء انهار في لحظة واحدة. قبل ساعات فقط، كان والدها يبتسم رغم التجاعيد التي حفرتها الأيام على وجهه، ورغم الجهد الذي التهم ظهره، كان يقول لها: "الصباح دائماً يحمل شيئاً جديداً، لا تخافي من الليل يا صغيرتي." لكنها الآن وحدها، والليل يسخر منها، والمصابيح فوق رأسها تومض وكأنها تبكي معها.

تذكرت كيف بدأت الحكاية. جاء ذلك الرجل ذو القفازين السوداوين، لم يكن وجهه واضحاً تحت الظلال، لكنه كان يحمل شيئاً في يده. شيء صغير، لكنه كان كافياً ليمحو كل ما تبقى من أمل. الكلمة الوحيدة التي نطق بها قبل أن يختفي في الظلام كانت: "انتهى."

انتهى؟ ما الذي انتهى؟ لم يكن والدها سوى رجل بسيط، يعمل بيديه، يكافح ليضع الخبز على الطاولة. لم يكن له أعداء، لم يكن له أصدقاء حتى. فمن ذا الذي قرر أن يأخذ منه الحياة بهذه البساطة؟

لم تكن روزا تفكر في الانتقام، لم تكن تفكر في العدالة، فقط أرادت أن تتشبث بلحظة أخيرة، أن تحفظ ملامح والدها قبل أن يبتلعها النسيان. لكن الدموع خانتها، انسابت بصمت، وسقطت على يده الباردة، كأنها تحاول أن تعيده للحياة.

خارج الغرفة، كانت المدينة نائمة، كما لو أن العالم لم يفقد شيئاً، كما لو أن ضوء المصابيح المرتعشة لم يشهد انكسار روحٍ في العتمة.

فجر الوردة شعر خديجة التومي

فجر الوردة شعر خديجة التومي


 لمن تشدو البلابل إذن؟

ونجوم الياسمين تحدّق بي
في هذا المساء الغائم في الشفق
أليس الصّمت ثقيلا حتى الجنون؟
والرّكن يُباهي الرّكن جمودا
من أسدل ستائر الغياب ؟
يقتاتني الشوق
يغتالني الحنين
وهذا الكابوس بيتي
فتطير بي القدمان
وأمشي ثمّ أمشي ، أنازل الصمت
أقتله بالهروب ...
والضجيج من حولي صاخب
والذوات ناشزة ، مستنفرة ، ضاحكة لعوب.
وأنا يا أناي متى تُلقي عصاي ؟
تتلقّف رأس تمرّدي
وهذا السّائد
وهذا الواقع
أنا المجدولة على حبل من العصيان
هل أهادن ؟
كلّ البلابل غادرتني
وذاك القلب الجميل هو الباقي
والمساء الغائم في الشفق
لا يغريني
فالفجر فجري
يجيؤني باكرا
يشدّني إليه برفق
يدنيني بعذب الكلمات
ويرخي لحن الفرح ثمّ يمضي
ويظلّ زماني بلا ميقات
وتهجر لبّي الدقّات
أنتظر فجرا آخر يحييني
ينقلني إلى صهوة الشمس
ولا يؤذيني.
يزرعني أملا ، حبّا وأفقا ليس يستكين
كي تضيع من ذاكرتي السنون..
وفي الفجر أولد
نقيّة ، بهيّة ، مثل وردة ضمّخها النّدى
فتهيم الرّوح جذلى
وأردّد الفجر فجري
والأشواق أشواقي
فلا المساء الغائم في الشفق يعنيني
ولا سطور المقدّر كائنة
أنا حبيبة فجري
أريده كما أشتهيه
ويبعثني كما يراني .

-------------------------------
خديجة التومي كاتبة و شاعرة من تونس.