أباطيل يجب أن تمحى من تاريخنا: انتحار زفيرة:

 أباطيل يجب أن تمحى من تاريخنا


انتحار زفيرة:


انتحار زفيرة:

أ. د. محمد دراج

تقول الحكاية أن عروج بربروس رأى المدعوة زفيرة زوجة الشيخ سالم التومي شيخ قبيلة الثعالبة الغربية، وكبير أعيان مدينة الجزائر. وكانت زفيرة هذه أجمل نساء المدينة. فشغف بها عروج وعلق بها إلى حد الافتتان. فتحايل على زوجها، ولفق له تهمة الخيانة والتواطؤ مع الإسبان وأمر بخنقه في الحمام. وما فعل ذلك إلا ليتخلص منه وينفرد بزفيرة فيتزوج بها. ثم تقفز الحكاية عن بقية التفاصيل لتخبرنا لاحقا بأن عروجا عرض عليها الزواج بعد مقتل زوجها الا انها رفضت ذلك وفاء منها لزوجها وكراهة لغدر عروج به. فما كان من هذا الأخير الا ان اكرهها على الزواج منه. وفي ليلة الزفاف انتحرت زفيرة بابتلاع السم..
هذه واحدة من خرافات التاريخ التي تلوث بها عقول العامة. والمؤسف اننا نجد ناسا من قومنا ممن يحسبون على الثقافة والفن والأدب يروجون لها على أنها حقيقة لا تشوبها شائبة. ولكننا عندما نضع هذه الخرافة في ميزان النقد والتمحيص، نجدها لا ترقى لأن توصف بأنها رواية تاريخية. فهي لا تعدو ان تكون حكاية مختلقة تروى في ليالي السمر.
وللتدليل على أنها كذلك نسوق الملاحظات التالية:
1.سبب مقتل سالم التومي ليس كما تروي الحكاية المزعومة، بل بسبب ثبوت تواطئه الفعلي مع الإسبان القابعين في قلعة البنيون. وذلك بوقوع بعض رسائله التي كان يتبادلها مع قائد قلعة البنيون الإسباني.
وحينما عرضت القضية على علماء مدينة الجزائر افتوا كلهم باستحقاقه للقتل وان دمه هدر. فنفذ فيه الإعدام بأمر من عروج بناء على فتوى علماء الجزائر وليس بناء على رغبة عروج في التخلص منه كما يقول المفترون. ولو افتى العلماء بخلاف ذلك ما تم قتله، لأنه كان وقافا عند فتوى العلماء ويعود إليهم في كل صغيرة وكبيرة تخص البلاد. ومن أراد أن يرى شواهد على ذلك فليرجع إلى مذكرات بربروس أو تحفة الكبار أو غزوات عروج للمجهول أو غزوات المجاهد خير الدين بربروس. فسوف يرى كيف كان عروج ومن بعده خير الدين لا يقطعون امرا ذا أهمية دون الرجوع إلى علماء المدينة التي تقع فيها الحادثة. فقد استشار عروج علماء تلمسان في أمر سلطانها الزياني الذي تواطأ مع الإسبان فافتوا بقتله فنفذ فيه فتوى العلماء. وهو ما فعله مع سالم التومي بناء على فتوى علماء مدينة الجزائر.
2. اعتراف يحيى بن سالم التومي الذي لجأ إلى الحاكم الإسباني في وهران المدعو دولكوديت. وقال له يحيى بن سالم التومي بالحرف الواحد : ( إن والدي انذبح من أجلكم). حسبما ورد في إحدى التقارير ألمحفوظة في أرشيف سيمانكاس بإسبانيا.
3. بالنظر إلى حال عروج من خلال المصادر العربية والعثمانية - وليس الفرنسية - نجدها تصفه بأنه كان رجلا مجاهدا عابدا رقيق القلب يحن على الضعفاء والفقراء باشراكهم في غنائمه ووقف الأوقاف عليهم وتختين اليتامى من اطفالهم وتزويج بناتهم من خالص ماله، كما عرف عنه أنه كان محبا للعلماء والاولياء والصالحين. حياته كلها غزو وجهاد إلى أن قتل شهيدا وقطع رأسه الشريف وطيف به في أنحاء اسبانيا قبل أن يوضع في كنيسة قرطبة. أضف إلى ذلك زهده في المناصب حيث رفض أعلى المناصب التي عرضها عليه السلطان المملوكي وهو أن يتولى قيادة الأسطول المملوكي في البحر الأحمر. وهو ثاني أعلى رتبة عسكرية في الدولة المملوكية. كل ذلك قبل أن يحط رحاله مع إخوته في تونس. وحينما التقى باخيه خير الدين تساءلا ماذا سيفعلان بعدما جاءا إلى هذه البلاد البعيدة. فقالا لبعضهما: " مادم الموت نهاية كل حي فليكن في سبيل الله". وهكذا كان قرارهما إلى أن سقط عروج شهيدا على يد الإسبان كما يعلم الجميع.
ترى من كانت حياته هكذا وواقع حاله على هذا النحو، هل حقا يتوقع منه أن يقتل رجلا بريئا لأجل أن يأخذ منه زوجه؟
4. حكاية زفيرة هذه على أهميتها. لم يرد ذكرها لا تلميحا ولا تصريحات في اي مصدر عربي أو عثماني أو اية وثيقة أرشيفية أو مراسلة رسمية يمكن الاعتماد عليها ولو على سبيل الاستئناس بوقوعها، بصرف النظر عن تفاصيل الرواية المتعلقة بها. والمصادر التي تحدثت باسهاب عن مرحلة عروج مثل مذكرات بربروس أو كتاب الغزوات بكافة نسخه المحفوظة في مكتبات الجزائر وتونس وباريس، وكذا تحفة الكبار لكاتب چلبي وغيرها لم تشر من قريب أو بعيد إلى الحادثة. مما يعطي انطباعا على اختلاقها وكذبها. ويزداد سوء الظن بها ورودها فقط في كتاب أو كتابين فرنسيين هما دوتاسي وآخر نسيته. وهما لم يكونا معاصرين للأحداث ولا شاهدين عليها ولا ناقلين لها عن مصدر موثوق يمكن أن نعود اليه للتأكد من صحة النقل عنه. بل حتى المراجع الحديثة المعاصرة التي دونت من طرف مؤرخين أو باحثين جزائريين مشهود لهم لم يذكروا هذه الحادثة لا من بعيد أو قريب. وأذكر هنا على سبيل المثال الأساتذة: سعد الله وسعيدوني وبلحميسي وبن خروف ومروش وسعيود وحماش وبن خروف و هلايلي. وقبل هؤلاء الجيلالي والميلي و المدني، وقبل هؤلاء مؤرخو كتب الرحلات و المذكرات والاسرى من الأوربيين... بإستثناء هذا دوتاسي الذي ضربت لروايته الطبل والزرنة..
5. جميع خصوم عروج المعاصرين له قاتلوه وقاتلوا أخاه كما قاتلوا من جاء بعدهما ايضا. لكن لا احد منهم اتهمه أو عيره بأنه قتل سالم التومي بسبب زفيرة هذه. فلو كانت الحادثة حقيقية لاستعملوها ضده ولشنعوا عليه بها ولألبوا عليه الناس بسببها ولكانت أكبر ذريعة للخروج عليه. لكن لا احد ذكر ذلك. إنما كانوا يقاتلونه قتال رجال فقدوا امتيازات ومصالح ضيقة، واحسوا بأنهم سوف يتلاشون من الوجود في حال تمكن عروج من تأسيس دولة مركزية قوية. وهو ما حدث بالفعل لاحقا.
6. قالوا انه تزوجها غصبا عنها وفي ليلة زفافها انتحرت لكي لا يلمسها عروج. سيدة شريفة أرملة أكبر شخصية سياسية في مدينة الجزائر يتم تزويجها غصبا عنها.. هكذا دون اية إشارة إلى من كان وليها في النكاح: والدها؟ جدها؟ عمها؟ اخوها؟ أم يقولون بأنها زوجت نفسها بنفسها؟ ...كيف تم هذا العقد واين ومتى ومن كان شاهدا في هذا العقد أو الزواج... حدث اجتماعي وسياسي على هذا القدر من الأهمية تسكت عنه كافة المصادر العربية والعثمانية المعتمدة في كتابة تاريخنا. ثم يأتي دوتاسي هذا وغيره من الحكواتيين ليصنعوا للسذج من العامة تلك الصورة الخيالية التي تنتهي بهمجية عروج الذي حاول اغتصاب زفيرة في ليلة زفافها، وانتحارها على طريقة المسلسلات الهندية... والله ابو جهل لا يفعلها..
7.زفيرة هذه كشخصية تاريخية هل حقا كان لها وجود حقيقي في الواقع؟
لقد بحثت عنها في مصادر التاريخ المعتمدة التي تحدثت عن الفترة، واشارت إلى مقتل سالم التومي، فلم أجد لذكرها أثر. ولم أجد أحدا أشار إليها أو إلى وجودها كشخصية حقيقية. بإستثناء ما أشار اليه دوتاسي أو من نقل عنه أو من نقل عمن نقل عنه حادثة الانتحار المزعومة. وحتى هو أو غيره عجز عن ذكر اية تفاصيل أخرى عنها أو عن غيرها من زوجات اعيان الجزائر وزعمائهم المحليين. فأين هي زفيرة هذه يا ترى... أكانت نكرة طول حياتها وحياة زوجها لتظهر فجأة في ليلة الزفاف المزعوم؟
8. معروف أن نساء مدينة الجزائر كن - حسب المراجع التي وصفت الحياة الاجتماعية في مدينة الجزائر خلال تلك الفترة - عند خروجهن يلبسن ملاءة عريضة تغطي كافة ابدانهن تدعى (الحايك) أو (الملاية) ويغطين جميع وجوههن ولا يتركن منه سوى فتحة ضيقة لرؤية الطريق على طريقة نساء غرناطة. و لاحقا انتقلت إليهن عادة لبس النقاب المسماة ب(العجار). ولأن المدعوة زفيرة هذه زوجة أكبر شخصية في مدينة الجزائر من المحال ان تخرج من بيتها أو قصرها دون أن تكون محاطة بعشرات المرافقات من الجواري والقريبات والصديقات ونحوهن. يتقدمهن ويتاخر عنهن عشرات الحرس لحمايتهن من السفهاء. فكيف تمكن عروج من رؤيتها والتمعن في جمالها. واين وكيف رأى هذا الجمال المزعوم؟
قد يقول قائل لعله نزل ضيفا عند سالم التومي فتمكن من رؤيتها.
والجواب : وان كان هذا جائزا بالنظر إلى ان سالم التومي كان شيخا لمجلس اعيان المدينة ومن الجائز انه استقبله عند قدومه إلى المدينة أو بعد ذلك مرة أو أكثر في بيته. لكن من ينظر إلى بيوت الجزائريين بالعاصمة في تلك الفترة أو خلال الفترة العثمانية يجد ان الجناح المخصص للضيوف يكون مفصولا بشكل كامل عن الجناح المخصص للحريم والنساء والأولاد. بحيث يستحيل أن يرى الضيف جارية من جواري البيت فضلا عن ان يحظى برؤية حرة من حرائره. وأن الذي كان يخدم الضيوف في بيوت الأشراف هم الخدم وليس نساء البيت. بل حتى الجواري والوصيفات المكلفات بالطبخ والغسل وما شابه ذلك لم يكن يظهرن للرجال أو يتواصلن معهم عند نزولهم ضيوفا. ولأجل ذلك فإنه حتى بهذا الاعتبار يستحيل على عروج ان يرى زوجة سالم التومي. ويبقى السؤال مطروحا:
كيف تمكن من رؤية جمالها المبهر الذي ألجأه التنكر لدينه وجهاده مروءته وماضيه والمخاطرة بمكانته المعنوية في قلوب الناس، ليقوم بقتل شيخ المدينة التي استقبلته استقبال الابطال، ليظفر بأرملته الحسناء ؟؟ فعلا نحن في فيلم هندي بامتياز...
9. تروي الحكاية الشعبية ان زفيرة كانت أميرة وزوجها كان سلطانا على مدينة الجزائر، إلى أن جاء عروج فغدر به وازاحه عن عرشه وجلس في مكانه. وهو كذب مكشوف وباطل مفضوح ليس فيه معشار ذرة من الصحة. فمدينة الجزائر وما حولها لم تكن مملكة ولا سلطنة قبل الفترة العثمانية. بل كان تدار من قبل مجلس اعيان مثل غيرها من المدن التي كانت تابعة للدولة الحفصية أو الزيانية. والشيخ سالم التومي كان شيخ قبيلة الثعالبة العربية التي تغلبت على قبيلة بني مزغنة البربرية في القرن 15 الميلادي، فاستولت على مدينة الجزائر والريف المحيط بها. وزوجته المزعومة هذه لم تكن أميرة مثلما لم يكن زوجها أميرا أو سلطانا، بل زعيم عشيرة وليس أكثر من ذلك.

أ. د. محمد دراج
جامعة الجزائر 2

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق