الهُويّة الشخصية والهوية الوطنية

 الهُويّة الشخصية والهوية الوطنية

د محمد محمد يونس علي

عومل مصطلح الهُويّة في تراثنا على أنه مرادف ترادفا ماصدقيا (وليس مفهوميا)

المصطلحات مشابهة كالمعنى والماهية والمفهوم، ولكنه عُرّف تعريفا إدخاليا بأنه ما يكون به الشيء هو هو، وتعريفا إخراجيا بأنه الامتياز عن الأغيار. وينطبق التعريفان المذكوران إلى حد كبير على ما قصدناه هنا بالهوية. وسنتحدث في هذا المقال الموجز عن الفرق بين الهوية والشخصية من ناحية، والفرق بين الهوية الفردية والهوية الوطنية من ناحية أخرى.
أما فيما يتعلق بالتفريق الأول فلابد من الإشارة إلى وجود تداخل يفرض بعض الخلط بين مفهومي الهوية والشخصية، وأنه ليس من اليسير العثور على معايير موضوعية مطردة يمكن بها إزالة هذا الخلط، ومع ذلك يمكن القول بشيء من التجاوز: إن الهوية يمكن أن تتحدد بالمعرفات الاجتماعية في حين تتحدد الشخصية بالسمات السيكولوجية والجسدية. فعندما تقول أنا عربي فإنك تعبر عن بعض مكونات هويتك، وعندما تقول أحب العرب فإنك تكشف عن بعض ملامح شخصيتك. فعلمك وذكاؤك ومدى شجاعتك أو قوة عزمك أو جاذبيتك للآخرين أو كونك كسولا أو مهملا أو نشيطا أو منظما تعد بعض سمات شخصيتك في حين يعد جنسك وجنسيتك ولغتك ودينك ومهنتك جزءا من هويتك. ولعله من السهل على الآخرين اكتشاف بعض سمات شخصيتك من خلال تعاملك معهم، ولكن ليس من السهل الكشف عن مكونات هويتك باستثناء جنسك ما لم تكشف أنت عن ذلك.
وقد يكون من المهم التنبيه على أن عناصر الهوية تتغير جزئيا عبر الزمن: فقد تكون مدرسا ثم تصبح أستاذا جامعيا، وقد تكون طالبا فتصبح مهندسا، بل قد تكون ذكرا فتتحول إلى أنثى، وقد تغيّر جنسيتك أو مذهبك أو دينك. وربما ينطبق هذا إلى حد ما على الشخصية، فهي أيضا في تغير مستمر، ولكن تغيرها يتسم بالبطء، ويستجيب عادة لما يتعرض له الإنسان في محيطه الاجتماعي من مواقف وخبرات، كما أن تغيرها تغيّر لا إرادي عادة. وربما كان التمييز بين الهوية والشخصية عاملا مساعدا في التفريق بين ما يمكن أن يعد تمييزا عنصريا وما لايندرج تحته من نقد، فالاعتداء على الهوية نوع من التمييز العنصري في حين يعد الحكم على الشخصية سلبا أو إيجابا نوعا من النقد المشروع.
وأما الهوية الوطنية فتتحدد عادة بما يأتي: التاريخ المشترك، الرقعة الجغرافية الموحدة، اللغة، الديانة، الثقافة المشتركة، الشعور الوطني، المشاركة في السلطة والاقتصاد. وتختلف دول العالم في تركيزها واهتماماتها بما يكوًن ملامح الهوية عند مواطنيها، ويمكن أن نلحظ هذا بوضوح في ما يصر عليه الإسرائيليون من إعلاء لعامل الدين في تشكيل الكيان الصهيوني في حين تتفاوت سائر دول العالم في تركيزها على ما يمكن أن يميز كياناتها الوطنية من المكونات المذكورة سابقا.
ولعل أهم ما يعنينا نحن العرب في سياق ما نعانيه من أزمة في تحديد مكونات هوياتنا الوطنية أن نركز في إعلامنا ومناهجنا التعليمية على ما نراه مناسبا لخلق نسيج متناغم من تلك المكونات يسهم في المحافظة على الوحدة الوطنية لبلداننا. ولا شك في أنّ من أهم التحديات التي تواجه بلداننا العربية هو وجود هويّات متوسطة بين الهوية الشخصية والهوية الوطنية كالهوية القبلية والهوية الجهوية والهوية الطائفية والهوية الإيديولوجية.
ويتوقف نجاح الدولة في المحافظة على الوحدة الوطنية بمدى قدرتها على اختزال كل تلك الهويات في قالب ثنائي تتفاعل فيه الهوية الشخصية مع الهوية الوطنية على نحو إيجابي، وتُسخّر فيه الهوية الشخصية لخدمة الهوية الوطنية، والهوية الوطنية في خدمة الهوية الشخصية على نحو لا يبدو فيه تضارب بين مصالح الهويتين، وإنما يكون ذلك بالإعلاء من قيمة الفرد ومنحه حقوقه وقيامه بواجباته وترسيخ مفهوم المواطنة ومتطلبات المجتمع المدني من تسامح وتعايش واحترام للرأي الآخر.
ومن التحديات الأخرى التي تواجه الدول العربية التنوع اللغوي ومزاحمة اللغات الأجنبية للغة العربية في الاستعمال وتزايد الاهتمام باللهجات المحلية واحتلالها أراضي جديدة كان من المتوقع أن تكون للعربية الفصيحة، وذلك كمواقع التواصل الاجتماعي والبرامج المخصصة للأطفال، ويبدو أن التقليل من تضخم هذا التحدي مرهون بالتخطيط اللغوي ووضع سياسات لغوية مدروسة ومدى توفر إرادة سياسية لتحقيق ذلك.
ونظرا إلى قابلية التذبذب التي يتسم بها الحس الوطني عند عامة الشعب نتيجة شعوره بالغبن وضياع الثروة الوطنية بسبب الفساد وغياب روح العدالة الاجتماعية فإن تعزيز الحسّ الوطني وإنقاذه من الانهيار يحتاج من المسؤولين إلى تطبيق سياسة حكيمة رشيدة يشعر فيها المواطن بأن حقه لم يهضم، وأنه لا مكان في الدولة للظلم والعسف والاضطهاد.
ولا يفوتنا أن نعرّج على أهمية الإعلام والتعليم والتربية -إذا ما وقع في أيد أمينة- في التقريب بين وجهات النظر وإغناء الذاكرة الجماعية بالعوامل الموحّدة للمجتمع، وتهميش النزاعات التاريخية سواء أكانت قبلية أم جهوية أم طائفية، وتعزيز ثقافة مدنية مشتركة في ضوء المبادئ والقيم الإسلامية السمحة.
د محمد محمد يونس علي

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق