الخروج من جزيرة الأسماء
في جملة مكثفة وعميقة، يقول (كونديرا): الاسم شكل من أشكال الاستمرارية في الماضي، والناس الذين لا ماضي لهم، هم أناس بلا اسم. وبطل هذه الحكاية لم يغادر _ على الرغم من كل التحولات في سيرته الطويلة_ ابدياته الصغيرة التي ترسخت صورها في منطقة عميقة من الذاكرة، والتي يحملها اسمه الاول النائم في خانة آمنة من وعيه. لم يغادر حنان الطفولة، لم ينس انتشاء العاشق في لحظة تواصله مع بنت الدحمان، بل كان يسمع في كل حال ايقاع للحياة القديمة، طاردا كل خشونة او هزيمة في حلبة الماضي، كل مشهد فيه اشارات تتعلق بالقسوة المفرطةا في التجربة الشخصية للبطل في الوطن الام. فكان هذا التجذر الواعي هو سبب استمراره، ووسيلته في الحفاظ على توازنه الاخلاقي، وانتصاره النهائي في حربه الشخصية مع الوقائع العجائبية، الاحداث التي انطوت على إدراك لمبدأ المقاومة، فلم يستسلم للالتباسات الاشد شذوذا في تفكيره، غير مشكك بأن رأسه آلة تصوير قديمة تحتفظ في ذاكرتها المعتمة بكنز، وان اسمه هو حرز يحرسه من ضغط المنفى، وبذاءة الشعور بالاغتراب الذي رافقه في مجمل الرحلة العجائبية، التجربة القاسية التي سرد بعض تفاصيلها بنفسه، وتعاضد في اكمالها رواة آخرون دعاهم الكاتب الى حفلة النواح في جزيرته المتخيلة منذ البداية لهذا السبب. يقول الراوي، السيد الذي اشترى مصطفى: لابد أن تغيّر اسمك، وتخفي دينك ايضا، لن يرحمك احد في هذا المكان....
والأسماء بحمولاتها الثقافية والدينية والنفسية تشغل حيزا في كامل النص الذي كتبه عبد الرحيم الخصار، إذْ رسم من خلالها خارطة التحولات التي مرت بها الشخصية الرئيسة، ورصد تقلباتها النفسية واعطابها وانكساراتها واوهامها. بالنسبة لي سوف أعيد ترتيب هذه الأسماء زمنيا كي أمسك بخيوط هذه اللعبة السردية التي تبدو في ظاهرها تفكيكا لقضية العبودية والتي تداولها الأدب كثيرا عبر نصوص لا يسعني حصرها، وفي باطنها، تجربة وجودية مضنية، بحثا عن الذات التي تغرق في عبودية الأسماء. إنها لعبة الحيرة بين الداخل والخارج، المنطقتان الصالحتان طوال السرد لإدارة النقاش عن معنى الحرية: مصطفى. العبد، استيبانيكو، استيفانيكو، استيبان، استيفان الاسود، استيفان الموري، أكا، المكسيكي الاسود، الفاتح الاسود، الزنجي. لكن اسم مصطفى يتوهج في النهاية لأنه أصل مرتبط بالوعي وليس عارض نسجته الاوهام، ولم يكن بطل جزيرة البكاء الطويل بلا اسم، لأن لا وجود لشخص او شيء بدون اسم، حتى لو كان متحققا كوجود فعلي، أما مصطفى فموجود، لكنه اسم مخفي تحت طبقات خلقتها السُلطة التي تمنح الاسماء المزيفة، ليشكل هذا الزيف ختم تحريم فوق ختم، بينما الحقيقي لايموت بل يتعرض للتغييب ربما، وعدم موته يعني أنه يحتفظ بصفة القداسة، التي تغذيها الرغبة بالانعتاق من السلطة الخارجية او الداخلية، فكل اسم ينطوي على جوهر راسخ، لن يستطيع عارض محوه، او كمايقول دورانتيس، السيد النبيل قي الصفحة92، بعد تعميد مصطفى وتغيير اسمه: اعرف أن استيبان ظل كما هو من الداخل، فالأسم بالرغم من كل شيء مثل اللباس يمكن تغييره، اما مايعتمل في القلب ومايرسخ في الروح، فهو شبيه بجبل قديم....
والحكاية التي على تطفو على السطح في هذا النص، تتحدث عن مصطفى الذي يبيعه ابوه لتجار برتغاليين وصلت سفنهم لنقل شباب( ازمور)، المدينة الصغيرة التي احتلها البرتغاليون قبل سنوات من هذا الحدث، مدينة الجوع والأوبئة والقمع التي لم يعد العيش فيها ممكنا، على النحو الذي تخلخلت فيه ثنائية الحرية والعبودية، الى ثنائية، الطرف المقابل للحرية فيها هو العيش. في اشبيلية يشتريه سيد شاب، ينقله الى مدينته، لكن هذا السيد يقرأ في عينيّ العبد الرغبة في الخروج من منطقة النسيان، حالة العبودية والرضا الى الطيران بجناحي صياد ماهر، من الزهد في الأشياء الصغيرة الى تطوير الطموح من اجل الوصول الى رتبة اصحاب الثروة. يعلم السيد عبده كل شيء، القراءة والكتابة وارتياد المسارح والمبارزة وارتداء الملابس وعادات كثيرة وافكار عميقة حتى يحين موعد الرحلة التي تشكلت من عناصر هي بمزيج من الجشع والبطولة، في النهاية هي حمى البحث عن الذهب، لكنها كذلك تعبير آخرعن الإرادة، عن الوعي بالوجود، والغموض الذي يجعل الكائن بين مرتبتين، الفهم المعتد به، والعطب الذي يراافق الجهل المفجع، حيث تسير حكاية مصطفى في طريقها الى عمق الكيان الإنساني. الى المحرضات التي تصنع القراراتُ، العطب والشك الدائم. التناقض وخيانة الذات، وصخب النفس بوصفها حلبة للقتال.
وعندما نقرأ من جهة اخرى ( جزيرة البكاء الطويل) فنحن أمام قضايا أخرى اهمها حالة الاغتراب النفسي والاخلاقي والثقافي،، الهجرة، الحنين إلى الوطن الأم، إلى الاسم الذي كانت تنادي فيه الأم، عن المجد والثروة، لكنه ايضا رحلة للبحث عن الذات، عن الحرية، عن اليد الممدودة لانتشال الآخر من هاويته، وهو المقياس الذي حدده جان جاك روسو في التفريق بين فعل الخير أو الشر. فما من ارتقاء اجتماعي او ثقافي او انساني بشكل عام لا يحمل معه السؤال عن القيمة، وبطل جزيرة البكاء لم يتنازل عن هذه الفعالية الانسانية في الحصول على نوع من الارتقاء على الرغم من قسوة التجربة، كان يحمل اسما يقاوم به الذوبان او التلاشي، ان يعود لتلك الفكرة الخالية من الغلو على النحو الذي يجعل من البشر ملاكا، وفي الوقت نفسه لا تمنحه الفرصة للفوز بخصائص الشيطان، الانسان العادي الذي يخطئ ويصيب لكنه لا يتنازل عن نشاطه العقلي في طرح الاسئلة.
ولقدغاب اسم مصطفى خلف طبقات ثقيلة من اسماء اخرى، ولم يظهر حتى الصفحات الاخيرة، كما لو أن الكاتب أراد ان يحتفظ بهذا الكنز، الورقة التي تنطوي على سر رحلته مع الكتابة، اسم لن يظهره إلا في اللحظة التي يقرر فيها انهاء الرحلة، عندما يجد فيها بطله ذاته، مصطفى الخارج من تجربة البكاء والضياع والألم والموت والعبودية. لقد حصل بطل جزيرة البكاء اخيرا على الذهب عندما تخلص من حمى البحث عن المجد والمعادن اللامعة، عندما اكتشف أن البطولة التي سكنت صورتها مخيلته، كانت مزيفة، وان الثروة التي كان يسعى اليها هي في قلبه وليس خلف المحيطات. متمسكا بنصيحة الحكيم الهندي لستيفانيكو، وهي اللحظة الفاصلة بين ذاتين وعالمين، بين جوهر الحرية وواقع العبودية: لا تبحث عن الذهب، ابحث عن نفسك، فأنت هو الذهب. اخيرا عاد البطل المزيف الى ذكرى الولي سيدي ايوب، الملاذ من الخوف والشعور بالتيه، عاد في أحلامه الى بنت الدحمان، وادعية المسجد الذي حوله البرتغاليون الى كتيسة فيما بعد. عاد الى امه، طفولته، البحر الذي تمنى في صباه ان يكون مأوى لأحلامه وميدان رزقه ووسيلة عيشه.
لقد تعددت الاسماء التي رافقتها تحولات مصطفى منذ ركوبه سفينة البرتغاليين من (ازمور) حتى عودته من الضفة الأخرى لبحر الظلمات ، ازاح الطبقات ليظهر بصورته ما قبل مغادرة وطنه، وكانت هذه الإشارة هي تعبير عن تحرره، لا يتعلق الامر باللون ولا بالوظيفة، بل بتلك النقطة التي في الداخل، الجوهرة التي توهجت، حين حصل على الوسيلة اليت مكنته من فركها، نصيحة الحكيم الهندي: انت هو الذهب!
لقد كانت بذرة الحرية نشطة في قلب مصطفى، والشعور بالعبودية خفيفا ليس مثل غيره من العبيد الذين جاءت بهم سفن البرتغاليين والاسبان، وكان من الممكن ان ينقذه اسمه قبل الدخول بتجربة الذهاب الى الضفة الاخرى، من الممكن ان يقوم الحب بهذا المهمة، في وقت ما توفرت له فيه كل الشروط الموضوعية للانعتاق، لكن تراكم الاسماء، وتجاربه الغرامية الفاشلة زادته يأسا، علاقته مثلا بالبلغارية كارا سيميرًا البيضاء التي قابلها في السوق، لم يعيقه اللون والعبودية من التواصل معها، لم تثره صديقتها او خادمتها السوداء، كما لو ان وجود هذا السواد يذكره بعبوديته، لكن الحب يحرر القلب والعقل، على النحو الذي كان يخاطب سيده باسمه بدون لقب. وهي اشارة بليغة على تحرر مصطفى او استيفانيكو من الداخل على الرغم من وظيفته وصفته باعتباره عبدا. في النهاية ذهبت ( كارا سيميرًا )، وذهبت (أماريس) ايضا
وكان فصل الرحلة، يشبه تلك الرحلات العجائبية المبثوثة في كتاب الليالي، البحر والسفن، لكن الحنين ايضا للموطن، للأهل، للجن الذي يسكن أجساد البشر، والتعاويذ والاعشاب والقراءات. لقد كانالجوع طوال السرد ثيمة أساسية، الجوع الذي يجعل البشر يأكلون بعضهم، الحضارة المتوحشة، التي ظهرت عند الاختبار زيفها ، عكس هؤلاء الذين يسمونهم متوحشين، الهنود الذين اظهروا جوهرا انسانيا متفوقا لا تطفئه التقلبات وتحفظه الاسماء الاصلية من كل زيف.
شكرا لكم على هذا المقال الرائع.
ردحذف