ما زلتُ أنتظر العيد كما كنتُ في طفولتي شغفٌ لا يفتر وفرحةٌ تتسلل من بين الأيام
حتى تصل إليَّ كنسمة من زمن مضى ولم ينته
لم يكن العيد في ريفنا مجرد يوم للاحتفال بل كان طقساً وموسماً للفرح
يحتفل فيه القلب قبل الجسد
كانت الطقوس تبدأ منذ الليلة السابقة
النساء يخبزن الكعك فتفوح رائحة اليانسون والسمن وماء الورد
كنا ننتظر حصتنا من العجين لنشكّلها بطريقتنا نزينها بالتمر أو الراحة
ثم نراقبها وهي تُخبز
إنها تتوسط كعكات أمي
كأننا نراقب الأحلام تُولد
ثم ..
ننام واللهفة تملأ مسامات محيّانا
ونستيقظ على أصوات التكبيرات تتردد في القرية
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله
وكانت الجلابيب مكويّة ومعلقة على حبال الخزائن كأنها مثلنا تنتظر
والأحذية الجديدة مصطفة كجنود في انتظار إعلان الفرح
نسير إلى المصلّى جماعات
الصغار يتسابقون واباؤنا يمشون بخطى وقورة لكن
القلوب عند الجميع ترقص فرحاً
وكانت الصلاة كأنها عرس دُعينا إليه منذ نعومة أظافر الحياة فينا
صلاة العيد جامعا ... ياااا لهذا النداء
يكبّر الخطيب سبعاً ويخطب ثم خمساً ويخطب
وبعد الصلاة
لا نعود للبيت
بل نعايد جيراننا بيتاً بيتاً
لا يُغلق في وجه أحد بابا
يصافحوننا بالكعك والتمر والقهوة والضحكات والدعوات
هذا صباح العيد
ثم بالبيت نقبّل يد أبي وأمي ولنحظىٰ الأن بالرضا والعيدية
كانت جنيهات جديدة لها رائحة كأنها من الجنّة
ثم
زيارة الأرحام .. وكنا نمشي مسافات طويلة لنسلم على الخالة أو العمّة أو الجدّة ونحظى بعدية ثانية وثالثة ورابعة
كانت الزيارة بحد ذاتها هدية وكانت الدعوات أجمل من كل العيديات
كنا نتباهى بعدد الجنيهات التي جمعنا لكننا نعود لنخفيها في أماكن سرية في البيت خوفاً من أن يسرقها أحد إخوتنا
وكان العيد لا يكتمل دون أن نحكي عن الحج والحجيج ونعدّ الأيام لعودة فلان من مكة
ونقرأ على جدران منازلهم
أهلاً بضيوف الرحمن
نحفظ أسماء المشاعر عرفة، مزدلفة، منى وكأننا بقلوبنا نرافقهم
كان الحج حلماً وكانت صور الكعبة تعلق في جدران البيوت بجوار تقاويم العيد
كان العيد وما زال أكبر من يوم وأكبر من احتفال
هو اختصار لفرحٍ نقيّ لحبٍّ بسيط لوجوه لم تغب عن الذاكرة
واليوم
ونحن ننتظر العيد وسط زحام الحياة نحاول أن نستعيد تلك الروح
كأن نرسم البهجة على وجوه أبنائنا جيراننا ومعارفنا
كما رُسمت على وجوهنا يوماً في العيد
فالعيد لا يعود بالوقت بل نحياه بالنية والذكرى وطيب الانتظار
وكل عام وأنتم بخير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق