هوسرل وهايدغر: عندما تذكّرت الفلسفة أنها تعيش في العالم

 

"فلنعد إلى الأشياء ذاتها!" – إدموند هوسرل

في بداية القرن العشرين، شعرت الفلسفة بشيء من الغربة…
لقد قضت وقتًا طويلًا وهي تتحدث عن مفاهيم مجردة مثل "الجوهر"، "السببية"، و"الوجود"، لكنها نسيت شيئًا مهمًا جدًا: أننا نعيش، نشعر، نختبر، نحب، نخاف… وأن كل هذه التجارب اليومية تستحق أن تكون موضوعًا للفكر.

هوسرل وهايدغر: عندما تذكّرت الفلسفة أنها تعيش في العالم


هوسرل: نحو وصف نقي للوعي

في هذا السياق، جاء الفيلسوف إدموند هوسرل ليؤسس منهجًا جديدًا للفلسفة، سماه الفينومينولوجيا، أي: "علم الظواهر".
لكن ما معنى "الظواهر" هنا؟

ببساطة، الظاهرة هي كل ما يظهر أمام وعينا: عندما ترى تفاحة، أو تسمع لحنًا، أو تشعر بالخوف… كل هذه تجارب هي "ظواهر".

قال هوسرل:

"دعونا نعلّق كل أفكارنا المسبقة، وننظر إلى الشيء كما يُعطى لنا في التجربة."

مثلًا: عندما ترى شجرة، لا تفكر فورًا أنها "نبات أخضر يستعمل في البناء"، بل انظر إليها كما تراها الآن: ارتفاعها، ظلها، حركتها في الريح… ما تقدمه لك الوعي مباشرةً، قبل أن تفسره أو تحكم عليه.

بهذه الطريقة، أراد هوسرل أن يجعل الفلسفة مثل العلوم الدقيقة: تعتمد على الملاحظة المباشرة، لكنها هنا ملاحظة للوعي ذاته، لما نشعر ونفكر ونعيشه.

هايدغر: لسنا فقط وعيًا… نحن موجودون!

لكن تلميذ هوسرل، مارتن هايدغر، لم يقتنع بأن الإنسان يمكن اختزاله إلى مجرد "وعي".
قال: نحن لا نعيش في فراغ… نحن كائنات موجودة في عالم، نعيش فيه، ونتفاعل معه، ونقلق بشأنه.

سأل هايدغر:

"ما معنى أن نكون؟"
هذا هو السؤال الذي شعر أن الفلسفة نسيته منذ زمن أفلاطون.

بالنسبة لهايدغر، التجربة الأساسية ليست أن "أدرك شيئًا"، بل أن "أكون موجودًا" في هذا العالم.
مثلًا: عندما أمشي في شارع مظلم، لا ألاحظ فقط الأضواء والظلال… أنا أشعر بالقلق، بالخطر، بالوحدة.
هذه الحالة – أن أكون هناك، أعيش التجربة بقلقها وتفاصيلها – هي ما يهتم به هايدغر.

من وصف الظواهر… إلى صرخة وجودية

وهكذا تحوّلت الفينومينولوجيا مع هايدغر:
من وصف ما يظهر للوعي، إلى محاولة فهم الوجود نفسه.

قال هايدغر إن الفلسفة اليوم ليست بحاجة إلى مفاهيم ميتافيزيقية، بل إلى العودة إلى الحياة كما نعيشها:

  • كيف نشعر بالوقت؟

  • لماذا نخاف من الموت؟

  • ما معنى أن نكون أصيلين في خياراتنا؟

كل هذه الأسئلة ليست نظرية فقط، بل تمس كل شخص في عمق حياته.

خلاصة: لماذا يهمنا هذا اليوم؟

في عالم اليوم، حيث تسيطر السرعة والتقنية، وتصبح الحياة أكثر استهلاكًا وأقل تأملًا، تدعونا الفينومينولوجيا للعودة إلى التجربة الحيّة:
أن ننتبه لما نراه، لما نشعر به، لما نعيشه…

هوسرل يقول:

"توقّف، تأمّل، واصفُ ما يظهر لك كما هو."

وهايدغر يضيف:

"ولا تنسَ أنك كائن موجود، تسير نحو الموت، وتبحث عن معنى في عالم مضطرب."

ربما نحتاج اليوم إلى الاستماع لهذين الصوتين، لنفهم أنفسنا… والعالم.

سنلتقي يوما - شعر بخته موريلا

 

سنلتقي يوما شعر بخته موريلا

سنلتقي يوما على باب الهوى بقايا ترابٍ سكونٌ وماءٌ وقطعة أرضٍ سنخوض جولة حربٍ سنغدو سياجاً بقايا عبيد بأرضٍ تدعى بقلب السلام كدأب حبٍ لازوردٌ بنفسجيٌ تربة عالم الشمال ينادي المؤذن
أنْ لا صمود مع الخريف مع الرياح.. أن لا جنائز للقتلى.. لأبناء الخيام.. أعود.. مثقلاً بحب.. بشغف.. وشعب ملامْ ببقايا حبٍ أراقب عالماً
لا يقبل الهائمين في الأرض وأدرك انْ ليس لي ولك
سوى بقايا حطامْ رائحة قهوة عربية..
وفجرٍ وقيامْ ليس لك إلا بضعة أسطر تغيب فيها حيناً..
و أوقظك حين أشتاقك في المنام وأظل أردد.. متى نأخذ كفايتنا من الحب من الحنين..
من السلام

الرحلة الذكية إلى إسطنبول

 

الرحلة الذكية إلى إسطنبول

الرحلة الذكية إلى إسطنبول

الرحلة الذكية إلى إسطنبول

الرحلة الذكية إلى إسطنبول

الرحلة الذكية إلى إسطنبول

الرحلة الذكية إلى إسطنبول

الرحلة الذكية إلى إسطنبول

الرحلة الذكية إلى إسطنبول

الرحلة الذكية إلى إسطنبول

الرحلة الذكية إلى إسطنبول

الرحلة الذكية إلى إسطنبول


مِنْ خَلْفِ سُورِ اَلصَّمْتِ - مريم أحمد كاتبة من مصر

 


عَزِيزَتِي م. م

غَيْرَ مُتَاحَةٍ لِلْبَوْحِ. . . مِنْ خَلْفِ سُورِ اَلصَّمْتِ عَلَى وَقْعِ هَمْهَمَاتٍ مِنْ
اَلْمَاضِي خُيِّلَ إِلَيَّ ضَوْءٍ يَنْبَلِجُ يَنْبَثِقُ عَنْهُ حُلْمٌ قَدِيمٌ
اِفْتَرَشَتْهُ ذَات يَوْمٍ عَلَى
فِرَاشِ قَلْبِكَ تَنَاوَبَنَا اِكْتِمَالُ تَمَامُهُ
- سَوِيًّا- مُنِيَ اَلْبِدَايَةُ وَبِكَ اِكْتَمَلَ
نِصَابُ اَلْأَمَلِ لِمَاذَا غَفَوْتِ فِي
اَلْمُنْتَصَفِ وَكَيْفَ تَكُونُ صَحْوَتكَ وَكَّلَ
صَيْحَاتِيِ فِي وَخَزَاتٍ لَمْ تُحَرِّكْ
سُكُونَكَ أَيَّ غَفْوَةٍ اِخْتَرْنِي وَأَيُّ سُورٍ
بَيْنَكَ وَبَيْنَ اَلْحَيَاةِ أَقَمْتُ! ؟





مريم أحمد كاتبة من مصر

مجموعة قصصية أم غادة الجم

مجموعة قصصية  أم غادة الجم


تاج الصمت 

في زقاق ضيق من أحياء المدينة القديمة، حيث يتداخل الحاضر مع عبق الماضي، وقفت زينب أمام مرآتها الخشبية المتشققة. تأملّت انعكاسها، ثم رفعت يديها برفق وثبّتت العمامة التي ورثتها عن جدتها، تلك التي حيكت بخيوط الصبر والكرامة. 
كانت ألوانها الزاهية تحكي قصة أجيال، كل طيّة فيها تحمل سرًا من أسرار النساء اللاتي سبقنها، وكل خيط يروي فصولًا من الألم، الفخر، والنجاة. مرّرت أصابعها فوق الخيوط الفضية المتشابكة بين القماش، لامست السلسلة المعدنية التي خطّها الزمن بلون الصدأ. تذكرت حين كانت طفلة، كيف كانت جدتها تروي لها عن "تاج الصمت"، كما أسمته. كانت تقول: "إنها ليست مجرد عمامة يا صغيرتي، بل درعٌ يحفظ تاريخنا، هويتنا، وأحلامنا التي لن تسقط أبدًا." كبرت زينب، وكبرت معها الحكايات التي خُبئت في طيات هذا القماش. 
في قريتها، كان الصمت لغة النساء، لكنه لم يكن استسلامًا، بل حكمةً مختبئة خلف نظراتهن العميقة. كنّ يتحدثن دون أن ينطقن، يكفي أن تلتقي العيون لتُقال القصائد، أن تتحرك الأصابع برقةٍ على الخد لتُكتب الروايات.
 في ذلك الصباح، حين قررت زينب أن ترتدي تاجها أمام الملأ، لم تكن مجرد فتاة أخرى تسير في الشوارع، بل كانت سليلَة إرثٍ عتيق، امرأة تقف بين شظايا الأمس وبدايات الغد. أضاءت خرزة العنبر المعلقة في أذنها كما لو أنها تحمل نبوءةً غير مكتوبة، وتلألأت حبات اللؤلؤ بين أصابعها كأنها تشهد على صمت النساء اللواتي حملن أحلامًا أكبر من أن تُحكى. خرجت إلى السوق، بخطوات هادئة لكن راسخة. لم تكن بحاجة لكلمات لتخبر الجميع من تكون. كانت عمامتها تحكي، عيناها تروي، وسكونها يصرخ بأعلى صوت:
"أنا هنا... وسأُسمعكم حكاية لم تعتادوا سماعها."

القصة الثانية: نيران القدر

 كانت تُدعى "ليانا"، وكأن اسمها وُلد مع النار التي تسكن عينيها وشعرها المتوهج. وُلدت في قرية على تخوم البحر، حيث الرياح تعصف بالرمال والناس يحكون عن أساطير البحّارة والأمواج التي تبتلع السفن. لم تكن كأي فتاة في قريتها، كانت مختلفة، وكأن القدر خطّ لها طريقًا لا يشبه سواها.
 منذ صغرها، كانت تجذب الأنظار بشعرها المتماوج كألسنة اللهب، بعينيها اللتين تحويان أسرار البحر وعواصفه. لم تكن تخشى التحديق في الشمس، بل كانت تقف تحتها لساعات، كأنها تستمد قوتها من نورها، كأنها لم تُخلق إلا من ضوء ونار. لكن في أعماقها، كانت تحمل سرًا لم يجرؤ أحد على لمسه. فقد وُلدت بنبوءة غامضة، حكتها عجوز عمياء عند ولادتها، نبوءة قالت إنها ستكون "شعلة التغيير" في زمانٍ سيفقد فيه البشر نورهم. 
لطالما تجاهلتها، معتقدة أنها مجرد كلمات مجنونة من عجوز على حافة الموت. لكن الأيام أثبتت أن بعض الكلمات تحترق في القلب ولا تُمّحى. في إحدى الليالي، هاجمت القرية مجموعة من الغرباء، رجال بأقنعة سوداء، يحملون سيوفًا تلمع كأنها مسحوبة من أعماق الجحيم. لم يكن أحد مستعدًا.
 اشتعلت النيران في البيوت، وتعالى الصراخ في الأرجاء، لكنها لم تركض كما فعل الجميع، لم تهرب كما فُرض على النساء. وقفت في وسط العاصفة، شعرها يتطاير كأن الرياح تُراقصه، عيناها تومضان بتصميم لم يعرفه أحد من قبل. أمسكت بشعلة نارية من أقرب منزل مشتعل، رفعتها عاليًا كأنها تُعلن الحرب، ثم تقدمت. 
كانت وحدها في البداية، لكنها لم تبقَ كذلك. بدأ الناس يستعيدون شجاعتهم، بدأت القلوب تشتعل مثلها، وتحولت القرية بأكملها إلى عاصفة من النيران ضد أولئك الغزاة. لم يكن الانتصار سهلاً، لكنه كان محتومًا.
عندما انطفأت آخر شعلة في الأفق، نظرت إلى الأفق البعيد، إلى البحر الذي ظل يراقبها بصمت طوال حياتها. عرفت حينها أنها لم تعد مجرد فتاة منسية في قرية صغيرة، بل أصبحت قصة ستُحكى للأجيال، نارًا لا تُطفأ، واسمًا لا يُنسى. كانت ليانا، وكانت الشعلة التي غيرت كل شيء.

مجموعة قصصية  أم غادة الجم



القصة الثانية: حين تسكن الروحُ المدينة

 في مدينةٍ لا تنام، حيث الحجر يحفظ الأسرار، وتتنفس الأزقة عبق الأبدية، كانت القدس تقف شامخة، كأنها تتحدى الزمن وتُحادث الغيب. 
كانت قبة الصخرة تلمع في الليل كنبض قلب عاشق، ينبض رغم كل ما حوله من وجعٍ وصمت. لكن في تلك الليلة، لم تكن القدس وحدها... كانت هناك عيناها. ظهرت في السماء فوق القبة، كأنها طيف امرأة عاد من الذاكرة، أو ربما لم تغادر يومًا. عيناها مغمورتان بحنانٍ لا يُشبه الحنين، بل يشبه الوطن حين يحتضنك دون شرط، وشفتيها تميلان بابتسامة فيها كل أسرار العشاق والأنبياء. 
قال الناس إنها "روح المدينة"، التي هُجرت قديمًا، حين هجر الناس قلوبهم، لكن المدينة لم تنسها. كانت هي من قرأت ذات يوم في كتابها عن القدس، عن الجدار الذي بكى حين فقد ظلَّ امرأة، عن الزهرة التي سُقيت بالدمع فأنبتت وردةً حمراء فوق قلبها. كانت الروح تطوف كل ليلة، تُقبل القبة من السماء، وتُهدهد الجدران بكلمات لم يُسجلها التاريخ، لكنها محفوظة في ذاكرة المكان.
 كانت وردتها الحمراء تحملها على صدرها، لا ذابلة ولا يانعة، بل خالدة مثل القدس، مثل تلك العيون التي لا تزال تسأل: "متى نعود؟" وفي كل فجر، حين يذوب الطيف، وتُطفئ المدينة مصابيح الحنين، يبقى الأثر على القبة: ضوءٌ ليس من الشمس، ولا من المصابيح، بل من قلبٍ أحب القدس حتى صار منها.

بقلم أم غادة

الدرس الفلسفي في الجزائر - محمد شوقي الزين

الدرس لفلسفي في الجزائر - محمد شوقي الزين



بدأ الدرس الفلسفي في الجزائر يعرف انتعاشاً ونموًّا على مستوى الكتابات والملتقيات، مع الجيل الجديد الذي حوَّل الشعار السقراطي وكيَّفه مع راهنه: «أكتُبْ لأراك!». تفطَّن الجيل الجديد بأن الدرس الفلسفي ينتعش ويتنوَّع بالكتابة. لكن، لم يجد بعد التوازن الكفيل بالارتقاء إلى كتابة صارمة ودقيقة تقول فحوى ما يشتغل عليه. ليس الغرض أن نكتب في نوعٍ من الإسهال الحرفي، بأن نكتب لأجل الكتابة ولا نعرف ماذا نكتب ولماذا نكتب على وجه التحديد. لم تجد الكتابة بعد عيارها ونقطة تسديدها، لم تجد معيارها الداخلي في ضبط الموضوع وصياغة الأهداف. بعض الكتابات هي تأمُّلات أو خواطر، في الغالب ذات نبرة صحفية أو وعظية. لكن هناك كتابات جادَّة، رغم أنها قليلة، تأخذ بالموضوع من النَّاصية، تعرف كيف تسير وإلى أين تسير، تُحسن ضبط إشكاليتها وصوغ أسئلتها وتحديد أهدافها. لا ضير في ذلك، لأن الجيل الجديد هو جيل شاب يتعوَّد على الكتابة مثل الحدَّاد في صهر الحديد وقولبة الأشكال. لا نزال ربما في طور هذه القولبة التي تأتي فيها الأشكال غير منتظمة أو تفتقر إلى القوَّة والإيحاء والرونق. لكن، رويداً رويداً، يتَّجه الدرس الفلسفي في الجزائر نحو نموّه ليبتغي النضج والاكتمال.
أعتقد أن في الجيل الجديد الذي أنتمي إليه كذلك، هناك الحاجة إلى الكتابة. ربما هو إيحاء دريدي، الذي ترك فينا أثراً كبيراً بحكم المولد والنشأة بالجزائر، يقول بأن قَدَر الجزائر الفلسفية أن تكتب. وبالفعل بدأت الجزائر تكتب «فلسفياً» بالزخم المرجوّ، وإن كانت الجزائر لم تتوقَّف عن الكتابة «روائياً وشعرياً». جاءت كذلك الحاجة إلى الكتابة للتنفيس عن جرح سنوات الإرهاب، والبحث عن دليل للخروج من النفق المظلم لسنوات العنف والدم. ترعرع وعي متنامي لدى الجيل الجديد بأن التماس الحقيقة التي تُصنع في أنطولوجيا الراهن بأنثروبولوجيا ما هو كائن، يمرُّ عبر أثر ملموس وهو الكتابة. كانت الفلسفة متأخرة بالمقارنة مع الهاجس نفسه الذي تمظهر في الرواية والسوسيولوجيا. لدينا روائيين كبار وسوسيولوجيين حدسيين يعرفون كيف يثقفون اللحظة الجزائرية في فرادتها ويترجمون ذلك إلى فرضيات بحث وإلى كتابة عالمة، لكن كنا نفتقر إلى فلاسفة يؤدُّون أدواراً مماثلة. بدأوا في البروز والتقدُّم التدريجي في أرضية جديدة عليهم، بكل النقائص والثغرات التي تتميَّز بها كتاباتهم، لكن لهم الإرادة في الولوج عميقاً في الأدغال ومحاولة فهم الطابع المعقَّد والملتبس للحظة الجزائرية. صحيح أن معظم الكتابات هي حول الفلسفة الغربية، لكن هذا لا يمنع ذاك، وهناك واجب التعلُّم ممن هم أكثر منا خبرة ونباهة. لا أنخرط في النقاش العقيم والجاف حول «علوم الأنا» و«علوم الآخر».
ليس للفكر عرق أو جنسية تستأثر به أمَّة أو هوية. يمكن أن نتعلَّم من جميع الفلسفات ونترجمها إلى لغتنا الخاصة لتتأقلم مع سياق أنطولوجيا الحاضر التي نعمل على بلورتها. يقول البعض: لكن لماذا ترجمة الآخر وتكييفه مع الأنا؟ لماذا لا نستخلص قوانيننا الثقافية من خصوصية تواجدنا في العالم؟ أقول لهؤلاء: بادروا بذلك! منذ أكثر من مئة سنة، كان هاجس الإصلاح على لسان شكيب أرسلان: «لماذا تأخَّر المسلمون ولماذا تقدَّم غيرهم؟». إذا لم يستطع أهل الإصلاح الإجابة عن هذا السؤال خلال مئة سنة، فلا أعتقد أن رواد ديارنا يمكنهم الإجابة عنه. ثم بماذا؟ يفتقرون إلى الأدوات وإلى الإطار النظري. من أين يجلبون الإطار النظري؟ كيف يستخلصونه؟ أعتقد أنه ينبغي تغيير زاوية الرؤية تماماً لنقول بأن العجز عن تشكيل نظرية حول خصوصية الأنا الثقافية مردُّه مشكلة هذا الأنا ذاته الذي قيَّد نفسه بتسويغية (casuistique) الممنوعات والمحظورات والعقل الفقهي الضيّق بإفقار الخيال الخلاَّق واسترسال المخيال بالولوج في الدقائق المملَّة والتفاصيل اللانهائية. لم يعُد خيالاً مركَّبًا وقابلاً للخلق والتوليد، وإنما أضحى نوعاً من المخيال الذي يتوهَّم (نظرية المؤامرة) والذي يغوص في التحليلات المبعثرة واللانهائية، هي «رد فعل» (réaction) و«بلبلة» (agitation) أكثر منها «فعلاً» (action) فاتحاً، سائلاً، سؤولاً ومسؤولاً. عندما نكون في أفق الوعظ والدعوة وهاجس الهوية والخصوصية، لا يمكننا التنظير، لأننا نفتقر إلى الخيال الخلاَّق، إلى المفهوم المركَّب، إلى الهدوء والانتباه. فنحن في حميَّة الانتماء وهاجس التمركز حول الخصوصية.
منذ تأسيسها سنة 2012، ساهمت «الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية» بوسائل مادية وتربوية وفكرية في تنشيط وتفعيل الدرس الفلسفي، بفروعها الولائية أولاً، بالمجتمع المدني ثانياً، وبمراكز البحث ودور الثقافة والجامعة أخيراً. في بضع سنين، صنعت الجمعية لنفسها مقاماً معلوماً يدفع بالفلسفة في الجزائر نحو الوجهة المرجوَّة وهي تنمية الحسّ النقدي والاعتباري، وتثمين الكتابة العالمة، وتخصيص منصَّات للكلام الحيّ والتبادل الفكري في شكل ملتقيات ومؤتمرات. لم تبقَ الجمعية على صعيد الأستاذية والأكاديمية، وإنما انفتحت أيضاً على البيداغوجيا بتخصيص دورات تعليمية لطلبة الباكالوريا، بتهيئتهم عملياً ونفسياً على مواجهة الامتحان وتقديم دروس نظرية وتطبيقية في كيفية تحليل النص الفلسفي ومعالجة المقالة الفلسفية وتدريب التلاميذ على الأدوات المنهجية والمشاركة في الفضاء العمومي بالرأي والرأي المختلف؛ فهي تعلّمهم كيف يفكّرون بذواتهم، لحظة سقراطية يُعاد من خلالها إنجاب الأفكار من بواطنهم. لم يتوقَّف الأمر عند التلاميذ، بل راهنت الجمعية كذلك على تدريب الناشئة من الأطفال على التفلسف، بتنظيم أيام تربوية يُحسن فيها الطفل الإصغاء إلى السؤال الذي يطلقه بعفوية، بأن يجد له الركيزة والدعامة ويعي هذا السؤال. لا يراه يُحلّق في السماء كالفراش، بل يصطاده ويعيد بلورته ليرى بأن سؤاله هو كينونته بالذات يريد امتحانها على محك الواقع وما هو مشهود أمامه. ساهمت «الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية»، ولا تزال تساهم برئيسها الدكتور عمر بوساحة وبكل أعضائها وفريقها الجاد والمجتهد، في تفعيل المشهد الثقافي ومصاحبة العمل الفكري نحو نضجه ومَدَدِه بمِدَاد كُتَّابها وامتدادات هياكلها ونشاطاتها.

- الأستاذ محمد شوقي الزين