هيجل والإسلام: أزمة الترتيب في فلسفة التاريخ

 

هيجل والإسلام: أزمة الترتيب في فلسفة التاريخ


حين نحاول أن نفهم علاقة الفيلسوف الألماني هيجل بالإسلام، فإننا لا ننظر فقط إلى رأي شخصي في دينٍ معين، بل إلى مأزق فلسفي عميق عاشه هيجل داخل نموذجه النظري عن التاريخ. هذا المأزق يتمثل في ما يُعرف بـ"التضارب الزمني" أو الاختلال في تسلسل الأحداث، وهو ما جعل ظهور الإسلام بعد المسيحية يشكل معضلة حقيقية داخل منظومة هيجل الفكرية.

هيجل ونموذج التاريخ "المثالي"

هيجل لم يكن مؤرخًا تقليديًا. لقد كان يؤمن أن التاريخ ليس فقط سلسلة من الأحداث، بل إنه تعبير عن تطور الروح أو العقل المطلق (Geist). كان يرى أن لكل مرحلة تاريخية معنى فلسفي، وأن الروح تتحرك عبر صراعات ومراحل، نحو الحرية والعقلانية الكاملة.

في هذا السياق، كان يرى في المسيحية الدين الأعلى، لأنه – حسب فهمه – عبّر عن الفكرة الكاملة للحرية: "الله يتجسد في الإنسان، أي أن الإنسان يحمل في ذاته الألوهية." وهنا، تصبح المسيحية هي النهاية المنطقية للتطور الديني، بحسب هيجل.

معضلة الإسلام: كيف جاء "بعد النهاية"؟

لكن المشكلة تبدأ حين يظهر الإسلام بعد المسيحية.
إذا كانت المسيحية تمثل المرحلة الأخيرة والنهائية في مسار تطور الروح الديني، فكيف يمكن للإسلام أن يظهر بعدها؟
هل الإسلام تراجع؟
أم تجاوز؟
أم استمرارية؟

الباحثة Sai Bhatawadekar تطرح هذا التساؤل صراحةً:

"إذا كانت المسيحية قد جاوزت الإسلام، فكيف لنا أن نفسر ظهور الإسلام بعد المسيحية؟"

أما Jean-Joseph Goux، فقد رأى أن التسلسل الذي نعرفه (موسى، عيسى، محمد) كان "معضلة حقيقية" بالنسبة لهيجل. والسبب أن الإسلام، وفقًا لهذا الترتيب، يأتي في خاتمة التاريخ الديني، بينما النموذج الهيجلي يريده أن يكون وسطًا أو تمهيدًا للمسيحية، لا تاليًا لها.

اقتراح جيجيك: إسلام ما بعد التثليث

الفيلسوف سلافوي جيجيك، المعروف بقراءاته الطريفة والجريئة، اقترح حلًا مثيرًا:
لماذا لا نترك الترتيب التاريخي كما هو؟
وبدلًا من اعتبار الإسلام "تراجعًا" عن المسيحية، يمكننا اعتباره مرحلة مجاوزة:

  • اليهودية = توحيد مباشر

  • المسيحية = تعقيد عبر التثليث

  • الإسلام = توحيد شامل يتجاوز التثليث

وبهذا، يصبح الإسلام عودة أعلى (sublation) للتوحيد، تتجاوز المسيحية دون أن تنكرها بالكامل.

لكن هل يوافق هيجل على هذا الترتيب؟ وهل يقبل أن الإسلام هو المجاوزة الحقيقية؟

اعتراض حبيب: المجاوزة الهجيلية لا تنطبق هنا

في مقاله المهم "هيجل والإسلام"، يعترض الباحث حبيب على قراءة جيجيك، رغم أنه يراها ذكية.
السبب؟ لأن مفهوم "المجاوزة" أو "Aufhebung" في فلسفة هيجل له شروط دقيقة:

  • أن يقطع مع المرحلة السابقة

  • أن يحتفظ بجوهرها في الوقت نفسه

فالمسيحية – في نظر هيجل – "تجاوزت" اليهودية لأنها احتفظت بفكرة الإله الواحد، وأضافت لها بعدًا إنسانيًا (التجسد، المحبة، الفداء...).
أما الإسلام، فهو في رأيه رفض لفكرة التجسد والتثليث، وبالتالي لا يمكن اعتباره مجاوزة حقيقية للمسيحية، لأنه لا "يحفظ" جوهرها، بل يرفضه.

وهكذا، تبقى قراءة جيجيك غير مقبولة تمامًا داخل النموذج الهيجلي، رغم طرافتها الفلسفية.

الفلسفة والتاريخ: حين يتعارض "النموذج" مع الواقع

تكمن المشكلة الأساسية في فلسفة هيجل التاريخية في هذا الفارق بين:

  • التاريخ كما وقع فعلاً (الإسلام جاء بعد المسيحية)

  • والتاريخ كما يجب أن يقع وفقًا للنموذج النظري (المسيحية يجب أن تكون الختام)

وهذا ما يفسر كثيرًا من تناقضات هيجل حين يتحدث عن الإسلام. فهو تارةً يمتدحه باعتباره دينًا عقلانيًا موحدًا، وتارةً يراه دينًا جامدًا لا يقبل التطور.
هذا التخبط ليس عشوائيًا، بل نابع من الصراع بين الواقع التاريخي وبين النموذج الفلسفي الذي يريد فرض ترتيب مثالي على مجرى الحياة.


مع هيجل، لا تكون الفلسفة مجرد تأملات، بل محاولة لفهم مسار التاريخ بوصفه حركة عقل. لكن حين لا يتطابق الواقع مع هذا التصور، تظهر التوترات والتناقضات.
وهذا تمامًا ما حدث في مسألة الإسلام:
ظهر الإسلام في غير مكانه، ليس لأن خطأً وقع، بل لأن النموذج نفسه لم يكن مرنًا بما يكفي لقبوله.

ربما علينا اليوم أن نعيد التفكير في تلك النماذج المغلقة، ونتعلم من هيجل أهمية السؤال، لا الاكتفاء بالإجابات الجاهزة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق