التعليم: علاقة إنسانية قبل أن يكون معرفة - نزيهة أبو الفيلات


التعليم: علاقة إنسانية قبل أن يكون معرفة

نزيهة أبو الفيلات
معلمة رياضيات
من الأردن
مدرسة المرج الثانوية المختلطة


التعليم: علاقة إنسانية قبل أن يكون معرفة   - نزيهة أبو الفيلات


مدخل
كونك معلماً لا يعني مجرد امتلاك معرفة تنقلها للطلبة، بل يعني أن تكون صانعاً لعلاقات إنسانية ومعرفية تبني عقولاً وقلوباً معاً. فالتعليم في جوهره ليس عملية معرفية بحتة، بل هو عملية تشاركية – اجتماعية – عاطفية، تتقاطع فيها العلوم التربوية مع علم الأعصاب وعلم النفس.
تشير الدراسات الحديثة في التربية وعلم الدماغ إلى أن الطالب يتعلم على نحوٍ أفضل عندما يشعر بالأمان والانتماء والثقة داخل الصف (Immordino-Yang, 2016). ومن هنا، تصبح مهمة المعلم ليست مجرد نقل محتوى، بل بناء بيئة صفية داعمة تُشعل الفضول وتمنح الطالب معنى للتعلم.

التخطيط: جسر بين العلاقة والمحتوى
التخطيط ليس ورقة إجرائية أو تقسيماً زمنياً، بل هو كما تسميه البيداغوجيا: الجسر الذي يربط العلاقة الإنسانية بالموقف التعليمي. فهو يتيح للمعلم أن يصمم خبرات تعلمية تتناسب مع أنماط الطلبة واحتياجاتهم، انسجاماً مع نظريات التعلم البنائي (Constructivism) التي ترى أن المعرفة تُبنى من خلال التفاعل والخبرة.

أنماط الطلبة: نجوم في سماء الصف
كما تتنوع النجوم في السماء، تتنوع شخصيات الطلبة داخل الصف:
• الطالب القائد الجاذب: يمكن توظيفه وفق استراتيجيات التعلم التعاوني (Johnson & Johnson, 1994) ليقود مجموعته.
• الطالب الحماسي الحساس: يحتاج إلى ضبط حماسه عبر أدوار قيادية محددة تعزز ثقته دون أن تربك الصف.
• الطالب القلق: تظهر الدراسات (Zeidner, 1998) أن تقديم دعم نفسي قبل الاختبارات وخيارات بدء الأسئلة السهلة يقلل من قلقه.
• الطالب الأناني أو المتنمر: وفق نظرية التعلم الاجتماعي لــ باندورا (1977)، يمكن تعديل سلوكياته عبر النمذجة وتوظيف الأنشطة التعاونية المشتركة.

علاقة المعلم بالمحتوى
المعلم الفعّال لا يقتصر دوره على شرح المنهاج، بل تحويل المحتوى إلى خبرة ذات معنى. يوضح Bruner (1960) أن التعليم الفعّال يحوّل المعرفة إلى تمثلات يستطيع الطالب توظيفها في حياته اليومية. وهنا يظهر دور التنويع في طرائق التدريس: العرض، النقاش، التعلم النشط، واستثمار التكنولوجيا البسيطة (مثل مجموعات واتس أب صفية) كأداة للتواصل وحل المشكلات.

التقويم والانعكاس
التقويم ليس نهاية العملية التعليمية، بل بداية لفهم جديد. تؤكد أبحاث Black & Wiliam (1998) أن التقويم البنائي المستمر هو من أقوى عوامل تحسين التعلم. بعده يأتي الانعكاس (Reflection) كخطوة أساسية للمعلم، إذ يراجع ممارساته، يحلل نتائج التعلم، ويعيد صياغة استراتيجياته بما يخدم تحقيق نواتج أعمق.

خاتمة
التعليم ليس فقط إيصال معلومة، بل هو رحلة إنسانية معرفية، يقوم فيها المعلم ببناء علاقات، وتصميم خبرات، وتحويل المحتوى إلى معنى، والتأمل في نتائجه باستمرار. وعندما يدرك المعلم أن دوره يتجاوز الشرح إلى إشعال الفضول وصناعة الأمان النفسي والفكري، يصبح الصف مساحة للفرح والاكتشاف والنمو

سندريلا ضد الساعة - نص الأديبة نبيلة تقار


سندريلا ضد الساعة   - نص الأديبة نبيلة تقار


لم أكن يومًا من المهوسات بمراكز التجميل…
ربما لأنني كنت أثق في وجهي كأنه لوحة فنية من عصر النهضة، لكن مع مرور السنين صار يشبه لوحة جدارية في حمام عمومي.
كنت أقول لنفسي: "ما الحاجة إلى البوتوكس وأنا عندي أطفال يجرّبون كل دقيقة عضلاتي بصرخاتهم؟" لكن… الساعة كانت تدق… تدق مثل محقق بوليسي يطارد مجرمًا هاربًا.

فجأة استيقظت في داخلي سندريلا!
لكن ليست تلك الساذجة التي تنتظر الأمير، بل نسخة جديدة: سندريلا تقتحم مركز التجميل وكأنها تدخل معركة تحرير القدس.

دخلت الصالون، جلست على الكرسي، وإذا بمصففة الشعر تمسك رأسي كأنها تجرّ حصانًا جامحًا.
سقطت من عرش كرامتي، ووجدت نفسي أضحك:
"يا جماعة، من يسقط من الحصان في ساحة المعركة لا يحتاج إسعافًا… يحتاج كريم أساس فقط!"
ثم نظرت إلى قدمي…
أين الحذاء الزجاجي؟ أين الكعب العالي الذي يذيب قلوب الرجال؟
لم أجد إلا شبشب منزلي من النوع الذي يُباع في سوق الجمعة مع خصم إذا اشتريت اثنين!
خرجت من المركز أشعر أنني سندريلا مطوّرة:
لا عربة، لا حصان، لا أمير…
فقط عربة الزمن تجرني من شعري وتذكرني أنني متأخرة على حياة لم تبدأ أصلًا.
لكنني ضحكت… ضحكت حتى اختنقت:
– "أجمل ما في قصتي أنني لست بحاجة إلى أمير… الأمير بحاجة إلى أنفاس أكسجين إذا رأى فاتورتي من مركز التجميل!
وهكذا صار شبشبي الوطني أغلى من كل أحذية "غوتشي"… لأنه على الأقل يعرف طريقه للبيت، ولا يضيع في الحفلات التنكرية.


قلم نبيلة تڨار
.. من كتابها الجديد    - محطات ساخرة



رحلا .. ومن بقي معي ؟ - هديل قطياني




رحلا .. ومن بقي معي ؟   - هديل قطياني


عندما كنت أعمل طبيبة نفسية في المشفى المجاور لبيتنا
زارتني مريضة ، كان لها وجه بشوش وجه يعبر على أنها أميرة في قصر أحدهم
جلست ، وبدأت أحدثها.
 ما اسمك ؟
كم عمرك ؟
لم ترد علي البتة
أظنها لا تعرف بروتوكولات الطب النفسي وما في ذلك .
قالت إن حدثتك ، أستفهمينني ؟
لا بأس صغيرتي سيزول ...
فبدأت بالتحدث ويا ليتها لم تتحدث
سيدتي فقدت والدي في حادث مرور مروع
رأيت أبي يحتضر أمامي
رأيته كيف كان يريد نطق الشهادة
رأيته كيف كان يتعرق
رأيته كيف كان ينظر للأعلى
رأيت أمي تفقد حياتها
رأيتها عاجزة عن الرد .
ووقفت أمامها ولم أحرك ساكنا
رأيت الأطباء يغطون والدي بلحاف أبيض ويقولون لي ، لقد فقدناهما
جاء الناس لي كي يقوموا بطقوس العزاء ، رأيت النساء يحكين و يضحكن ، الرجال يريدون المزيد من الأطباق
رجع الجميع لديارهم نمت في سرير والديّ احتضنت ملابسهما و في كل ليلة أسرد ما حدث لهما
رأيت الكثير من الأمور سيدتي ، رأيت بشاعة هذا العالم
شربت الكثير من جرعات المسكن حتى أنني أتقيا أحيانا ، ولم تجدِ نفعا
لطفا منك أسألتقي بهما مجددا ؟
جاء الصباح وانتظرت أمي توقظني ولم تأتي ،
سلب مني القانون منزلي
كنت أنام في غرفة ووضعت صورة والديّ تحت وسادتي .
إني أبكي كل ليلة أبكي ويسمعني الجميع
أنهار أحيانا وأصاب بهيستيريا عندما يذكر اسمهما وأضحك حتى تؤلمني عضلات فمي
وأيضا لقد عملت عاملة نظافة في بيتنا وذلك لأسترق بعض الذكريات الجميلة لي معهما
كيف كان أبي يسرح لي شعري ، كيف كانت أمي تطهو في ذلك المطبخ ورائحة الفطائر تملأ المكان
أرجوك ، سيدتي في داخلي شخص يقول لي
إن والديك هنا لم يموتا
أخرجيهما
أريد أن أكمل ما تبقى لي من أيام
أريد أن أراهما في مكان جميل عند الرب،
كما كانا جميلين معي
ما إن أكملت الحديث حتى أصبحنا نسبح في بركة دموع صنعناها معا
شعرت حينها أنني ضعيفة إذ لم استطع مساعدتها .
كل الدنيا فوضى حتى يحضر والداي !!

هديل قطياني

خائن الضحكات - قصيدة للشاعرة تسنيم حومد سلطان


قصيدة  للشاعرة تسنيم حومد سلطان


كمزارعٍ في الحقلِ،يغرسُ بذرةً
أجني بكفِّي، وجهكَ المحتالا

ما كنتُ أعلمُ أن عينيّكَ اللتين هما الهدى.. ستخبئان ضَلالا

حتّى الحروف على يديكَ تثاقلت،
تاهت،
وماعادت تطيقُ مقالا
ومضيتَ تجرحُ ماتبقّى من نَدىً
حتى اتخذتَ من الجَفافِ مِثالا

أنا لا ألوم الرّيح،
لكن خانني بَابي،
وصدّق طيفكَ المختالا

سقطَ العتابُ،
ولم يعد لي منطقٌ إلّا السُّكونُ،
به أداوي الحالا ..

أعطيتَني وجهاً يُضيءُ كأنّهُ شمسٌ، تُعلِّمُ ليلَها الإقبالا

سلّمتني للحلمِ،
ثمَّ نزعتهُ،
كالبرقِ أومضَ ثمَّ عادَ زوالا ..

كنتَ الإله على ندوبيَ كلّها،
واليوم جاءت تقتفي الأطلالا

ما عدتُ أرجو من غيومكَ موسمًا
صارت حقوليَ تعشقُ الأقفالا

لم تبقِ شيئًا كي أعود،
فها أنا أمضي،
ومنّي لن تنولَ مآلا

في كلِّ كسرٍ كنتُ أُنبتُ حكمةً
والآن أغزلُ من دموعيَ شالا

صوتي وإن خنق البكاءُ حروفه
مازال يتقنُ في الهوى، الموّالا

للجرح معنىً، حين ندركُ أننا كنّا نشكّل للوداع سلالا

أنا من تخبّئها المرايا هيبةً
وإذا مشيت... مشى الزَّمان جلالا

ماذا تركت سوى الغُبار و رجفةٍ في البال..؟!
حبُّك ما استحق نزالا

كنتَ الجراح ولم تكن يومًا يداً
أو حضن صدق يحتوي الأهوالا

كلُّ الذي بيني وبينك أنني قد قمتُ
وانطفأتْ خطاك .. زوالا

أنا لستُ من تبكي غيابكَ إن مضى
بل من إذا سقطَتْ،
سمتْ أطوالا

فدعِ التودّدَ إن أتَى من بائسٍ
واقطعْ به الشكّ الذي قد نالا

وسأتركُ الأيام تمحو خيبتي
فالبعضُ يولدُ كي يكونَ وبالا

ما كلُّ قلبٍ بالجنونِ يُقاسُ، لا… بعضُ القلوبِ تمرُّ كي تحتالا

الشاعرة تسنيم حومد سلطان

تعليم رديء: تفكيك الخرافات الدارجة في التعليم

 

تعليم رديء: قراءة في تفكيك الخرافات الدارجة في التعليم

تعليم رديء: تفكيك الخرافات الدارجة في التعليم

يأتي كتاب تعليم رديء: تفكيك الخرافات الدارجة في التعليم (ترجمة نادية جمال الدين ويونس عبد الغني، عن المركز القومي للترجمة، 2017) ليشكّل وقفة نقدية جريئة أمام أكثر المقولات شيوعًا في ميدان التربية. المؤلفان، فيليب إيدي وجوستين ديلون، لا يكتفيان بمجرد استعراض هذه الأفكار، بل يواجهانها بلغة بحثية مدعومة بالأدلة العلمية، بغرض كشف هشاشتها، وإبراز كيف تسهم في تكريس تعليم سطحي، لا يعالج جوهر العملية التربوية ولا يطوّر فعليًا قدرات المتعلمين.

الكتاب ينطلق من فرضية أساسية: أن الرداءة في التعليم ليست نتيجة فشل فردي من معلّم أو طالب، بل هي انعكاس لبنية معرفية ومؤسسية تعيد إنتاج نفسها عبر تكرار "الخرافات التربوية". ومن هنا، تصبح مقاومة هذه الخرافات شرطًا أساسيًا لتأسيس تعليم حقيقي وفعّال.

أولًا: وهم تصنيف المتعلمين

من أكثر الخرافات شيوعًا تلك المرتبطة بتصنيف المتعلمين إلى أنماط أو فئات:

أنماط التعلّم (Learning Styles): الفكرة التي تقول إن بعض الطلاب يتعلّمون بصريًا وآخرون سمعيًا أو حركيًا، ويجب على المعلم تكييف الدرس وفقًا لذلك.

الذكاءات المتعددة (Multiple Intelligences): التصور القائل بأن الذكاء ليس واحدًا بل أنواع متعددة (لغوي، رياضي، موسيقي، حركي… إلخ).

الكتاب يبيّن، بالأدلة، أن هذه التصنيفات تفتقر إلى قاعدة علمية متينة، وأن تطبيقها في الصفوف لم يؤدِّ إلى تحسّن حقيقي في أداء المتعلمين. المثال العملي الذي يسوقه المؤلفان هو أنّ الطلاب، مهما اختلفت ميولهم، يحتاجون جميعًا إلى التعرض لمختلف أنماط المعرفة والوسائط، لأن التعليم الفعّال هو تفاعل معقّد يتجاوز مجرد "القالب" الذي يوضع فيه المتعلم.

ثانيًا: خدعة التكنولوجيا كمنقذ

تُقدَّم التكنولوجيا غالبًا بوصفها الحل السحري لمشكلات التعليم: السبورات الذكية، الأجهزة اللوحية، المنصات الرقمية… إلخ.
لكن المؤلفين يشددون على أن التكنولوجيا في ذاتها لا قيمة لها ما لم تُدمج في إطار تربوي نقدي.

على سبيل المثال، وفّرت بعض الحكومات آلاف الأجهزة اللوحية للطلاب، لكنها لم تحقق قفزة نوعية في نتائج التعليم. السبب أنّ التقنية استُخدمت كأداة شكلية، لا كجزء من رؤية تعليمية شاملة تُعيد التفكير في علاقة الطالب بالمعرفة.

التعليم، كما يوضح الكتاب، ليس مسألة "أدوات"، بل مسألة معنى، وبالتالي فإن التكنولوجيا لا يمكن أن تكون بديلًا عن المعلم أو المنهاج، وإنما عنصرًا مساعدًا يخضع لاستراتيجية تربوية واعية.

ثالثًا: صورة المعلّم

خرافة أخرى يناقشها الكتاب هي الاعتقاد بأن المعلم الجيد هو فقط من يجيد الإلقاء والتواصل. هذه الصورة المبسطة تختزل المعلم في دوره كـ"مؤدٍّ"، بينما الواقع أعمق بكثير.

المعلم، في منظور المؤلفين، هو:

صانع للمعنى.

محفّز للتفكير النقدي.

مُيسّر لحوار تفاعلي يحرّر المتعلم من التلقين.

على سبيل المثال، قد ينجذب الطلاب إلى معلم لبق، لكنه إذا لم يساعدهم على التفكير النقدي، فلن يحقق فرقًا طويل المدى في حياتهم المعرفية. المعلم الحقيقي هو الذي يفتح آفاقًا للطلاب لفهم العالم، حتى لو كان أسلوبه أقل "إبهارًا".

رابعًا: إشكالية "المدارس الجيدة"

من التصورات الراسخة أنّ هناك مدارس "جيدة" وأخرى "سيئة"، وأن الحكم على المدرسة يجب أن يكون مبنيًا على درجات الامتحانات أو السمعة. لكن الكتاب يكشف أن هذه التصنيفات تختزل العملية التعليمية في مؤشرات كمية ضيقة.

مثلًا: مدرسة ذات نتائج عالية في الاختبارات قد تحقق ذلك من خلال التركيز على الحفظ والتلقين، لا من خلال بناء عقل نقدي.

بينما مدرسة أخرى قد لا تظهر نتائج مذهلة في الامتحانات، لكنها تخرّج طلابًا أكثر إبداعًا وقدرة على حل المشكلات.

بهذا المعنى، يصبح الاعتماد على "المؤشرات الصلبة" فقط (كالدرجات) خرافة تخفي وراءها واقعًا أكثر تعقيدًا.

خامسًا: حجم الفصول والعدد المثالي

يشيع القول بأن تقليل عدد الطلاب في الفصل سيؤدي تلقائيًا إلى تحسين التعليم. لكن المؤلفين يوضحان أن العلاقة ليست بهذه البساطة.

صحيح أن الصفوف الصغيرة تسهّل التواصل الفردي.

لكن جودة التعليم لا ترتبط فقط بالعدد، بل بمهارة المعلم، ونوعية المنهاج، وفعالية الإدارة التعليمية.

مثال على ذلك: في بعض المدارس الخاصة، تكون الفصول صغيرة لكن التعليم رديء لغياب رؤية تربوية حقيقية. وفي المقابل، مدارس مكتظة بالطلاب قد تحقق نجاحًا إذا توافرت قيادة تربوية واعية.

سادسًا: التعليم كعملية اجتماعية وسياسية

الكتاب يؤكد أن التعليم ليس مجرد عملية معرفية محايدة، بل هو أيضًا عملية اجتماعية وسياسية. أي أنه يتأثر بالبنية المؤسسية، والثقافة المجتمعية، وحتى بالسياسات الاقتصادية.

عندما يُربط التعليم فقط بسوق العمل، يُختزل المتعلم في "أداة إنتاج" لا في إنسان متكامل.

عندما يُصاغ المنهاج ليعكس توجهات سياسية أو أيديولوجية، يفقد التعليم استقلاليته وقدرته على تطوير النقد الحر.

بهذا المعنى، فإن أي محاولة لإصلاح التعليم يجب أن تنطلق من وعي بطبيعته المركبة، لا من وصفات جاهزة أو حلول سريعة.

دعوة إلى التحرر من الخرافات

في خاتمة الكتاب، يوجه المؤلفان دعوة صريحة إلى المربين وصناع القرار:

التحرر من الاستسلام للأفكار الجاهزة.

إعادة بناء التعليم على أساس التفكير النقدي.

الاستناد إلى الأدلة العلمية لا إلى الشعارات.

فالتعليم، كما يشددان، ليس مجرد ممارسة شكلية، بل هو فعل إنساني عميق، يُعيد إنتاج الإنسان ويفتح أمامه أفق الحرية.


كتاب تعليم رديء: تفكيك الخرافات الدارجة في التعليم يضع المرآة أمام الممارسات التربوية السائدة، ويكشف أن كثيرًا مما نعتبره "حقيقة تعليمية" ليس إلا وهْمًا أو تبسيطًا مغلوطًا. وهو بذلك يسهم في دفع النقاش نحو إصلاح تعليمي قائم على النقد، والبحث العلمي، وإعادة الاعتبار للبعد الإنساني في التربية.

الاحتيال المنهجي في الرياضيات: عندما تنهار الثقة بالبحث العلمي

 


فضيحة احتيال منهجي في الرياضيات: أزمة تهدد مصداقية البحث العلمي

الاحتيال المنهجي في الرياضيات: عندما تنهار الثقة بالبحث العلمي



لم تعد الرياضيات، التي لطالما اعتبرت النموذج الأرقى للصرامة والمنهجية العلمية، بمنأى عن الفساد الأكاديمي. فقد كشفت دراسة حديثة قادتها الباحثة الألمانية إلكا أگريكولا من جامعة ماربورغ، بالتعاون مع جمعيات رياضية دولية، عن فضيحة هزت الأوساط العلمية، حيث تم رصد ممارسات احتيالية واسعة في منشورات الرياضيات على مستوى العالم. هذه الممارسات لم تكن مجرد حالات فردية معزولة، بل اتخذت شكلاً منهجياً يهدد بنية النظام الأكاديمي برمته.

المشكلة الجوهرية، كما أظهر التحقيق، تكمن في أن تقييم الباحثين لم يعد قائماً على جودة المحتوى العلمي، بل على مؤشرات رقمية تجارية مثل عدد الاستشهادات وعامل التأثير للمجلات. هذه الأرقام أصبحت هدفاً بحد ذاتها، مما دفع بعض الباحثين والمؤسسات إلى البحث عن طرق ملتوية لرفعها، حتى لو كان ذلك على حساب المصداقية العلمية. على سبيل المثال، تمكنت جامعة في تايوان من الحصول على تصنيف عالمي أول في مجال الرياضيات، رغم أنها لا تقدّم برامج تعليمية في الرياضيات أصلاً. هذا المثال الصادم يكشف كيف يمكن للأرقام أن تُضلّل عندما تُفصل عن الواقع العلمي.

الأمر لم يتوقف عند الجامعات، بل ظهر ما يمكن وصفه بـ شركات الظل التي تعرض خدمات مشبوهة للباحثين، مثل بيع مقالات للنشر في مجلات منخفضة الجودة، أو إنشاء شبكات من الاستشهادات الوهمية لرفع مؤشرات التأثير. هذه الشركات لا تخدم العلم، بل تبيع الوهم مقابل المال، وتحوّل سمعة الباحث أو المؤسسة إلى سلعة تجارية يمكن شراؤها. النتيجة الطبيعية كانت ظهور مقالات بلا قيمة علمية حقيقية، بل مليئة بالأخطاء أو منسوخة في بعض الأحيان، ومع ذلك تُحسب لها أرقام تضخم مكانتها في المشهد الأكاديمي.

الأخطر من ذلك هو صعود ما يُعرف بـ المجلات الضخمة أو Megajournals، وهي منصات تنشر مقالات مدفوعة أكثر مما تنشره جميع المجلات الرياضية المرموقة مجتمعة. هنا يتحول النشر العلمي إلى سوق مفتوح، حيث يصبح الدفع هو المعيار الأول للحصول على مكان على رفوف هذه المجلات، بغض النظر عن جودة المحتوى أو أصالته. هذا الواقع يخلق حالة من تآكل الثقة في البحث العلمي، إذ لم يعد القارئ قادراً على التمييز بسهولة بين البحث الرصين والورقة المفرغة من المضمون.

النتائج المترتبة على هذه الفضيحة تتجاوز الرياضيات لتطال العلم بأكمله. فكما عبّر البروفيسور كريستوف سورجر، الأمين العام للاتحاد الرياضي الدولي: "العلم الزائف لا يهدد العلم فقط، بل يهدد المجتمع بأسره، لأنه يقوّض الثقة ويجعل من الصعب التمييز بين ما هو صحيح وما هو خاطئ." هذا التحذير يلخص حجم الخطر: إذا تحولت المعرفة إلى لعبة أرقام بلا معنى، فإن أساس البحث العلمي نفسه يصبح مهدداً.

أمام هذا الوضع، دعا الباحثون إلى إصلاح جذري لنظام النشر الأكاديمي. فبدلاً من مطاردة الأرقام، يجب أن تعود الأولوية إلى جودة البحث العلمي ومدى أصالته وإسهامه الحقيقي. كما أوصوا بضرورة إدخال شفافية أكبر في طريقة حساب المؤشرات الأكاديمية، وإعادة زمام التقييم للمجتمع العلمي نفسه بدلاً من تركه في يد شركات تجارية تسعى وراء الأرباح.

هذه الفضيحة، رغم قسوتها، قد تكون فرصة لإعادة التفكير في طبيعة البحث العلمي ودوره. فإذا لم تُتخذ خطوات إصلاحية عاجلة، فإن الهوة بين "الأرقام" و"الحقيقة العلمية" ستستمر في الاتساع، وسيبقى العلم مهدداً بأن يتحول إلى مجرد سباق تسويقي يخدم المصالح التجارية أكثر مما يخدم الإنسانية.