معجم الدوحة التاريخي للغة العربية: ذاكرة اللغة واستعادة الزمن المفقود

معجم الدوحة التاريخي للغة العربية: ذاكرة اللغة واستعادة الزمن المفقود


يمثّل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية محطة فارقة في تاريخ الدرس اللغوي العربي، ليس لأنه معجم جديد فحسب، بل لأنه أول معجم تاريخي عربي شامل يرصد الألفاظ العربية في سياقها الزمني والدلالي، ويوثّق مسار تطورها عبر ما يقارب عشرين قرنًا من الاستعمال المتواصل. بهذا المعنى، لا يضيف المعجم كلمات إلى رفوف المعرفة، بل يعيد بناء العلاقة بين اللغة والزمن، وبين النص وسياقه الحضاري.

من المعجم التفسيري إلى المعجم التاريخي
اعتادت المعاجم العربية التقليدية تقديم الكلمة بوصفها وحدة لغوية ثابتة، تُعرّف بمعناها الغالب أو الأشهر، دون تتبّع تاريخ ظهورها أو تحوّل دلالاتها. أما معجم الدوحة التاريخي، فقد انطلق من منطق مختلف جذريًا؛ إذ يتعامل مع الكلمة بوصفها كائنًا حيًا، يولد في زمن محدد، ويتحوّل معناها بتغيّر السياقات الثقافية والاجتماعية والفكرية.

فالمعجم لا يجيب فقط عن سؤال: ماذا تعني الكلمة؟
بل يضيف إليه سؤالًا أعمق: متى ظهرت؟ وكيف استُعملت؟ وكيف تغيّر معناها عبر العصور؟
مشروع علمي طويل النفس
انطلق العمل في معجم الدوحة التاريخي سنة 2013، واستمر أكثر من ثلاثة عشر عامًا من البحث والتدقيق والتجريب، شارك فيها عشرات الباحثين والمتخصصين في اللغة والتاريخ وتحقيق النصوص، وفق معايير المعاجم التاريخية المعتمدة عالميًا.

وقد أسفر هذا الجهد عن منجز علمي ضخم، من أبرز ملامحه:

أكثر من 300 ألف مدخل معجمي
ما يزيد عن 10 آلاف جذر لغوي
مدوّنة نصية رقمية تتجاوز مليار كلمة

ببليوغرافيا تضم أكثر من 10 آلاف مصدر من مختلف العصور والبيئات
هذا الحجم من التوثيق يجعل المعجم من أوسع المشاريع المعجمية العربية، بل ومن أكبر المعاجم التاريخية على المستوى العالمي من حيث الامتداد الزمني والمادة اللغوية.

ردم القطيعة بين الماضي والحاضر
تكمن القيمة المعرفية العميقة لمعجم الدوحة التاريخي في كونه أداة فاعلة لردم القطيعة المعرفية التي نشأت بين القارئ المعاصر والنصوص التراثية. فكثير من الإشكالات في قراءة التراث لا تعود إلى النص ذاته، بل إلى إسقاط معانٍ حديثة على ألفاظ قديمة تغيّر معناها بمرور الزمن.
من خلال تتبّع الاستعمالات الأولى للكلمات، وتحديد معناها في زمنها التقريبي، يمكّن المعجم الباحثين والدارسين من:
فهم النصوص التراثية في سياقها الحقيقي
إعادة تأويل المفاهيم الدينية والفكرية والأدبية تأويلًا تاريخيًا دقيقًا
تجنّب سوء الفهم الناتج عن تغيّر الدلالات

انفتاح منهجي وشمول حضاري
لم يفرض معجم الدوحة التاريخي قيودًا أيديولوجية أو مذهبية أو ثقافية على مواده؛ فشواهده منتقاة من نصوص تمثل مختلف الأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية، ومن بيئات جغرافية متعددة، وعلى امتداد التاريخ العربي الإسلامي وما قبله.
المعيار الأساس في قبول الشاهد هو أقدميّة الاستعمال ووضوح الدلالة، لا هوية الكاتب ولا انتماؤه، وهو ما يمنح المعجم طابعًا علميًا موضوعيًا، ويجعله مرجعًا موثوقًا للباحثين من مختلف الخلفيات.

من اللغة إلى الذكاء الاصطناعي
لا تقتصر أهمية المعجم على الدراسات اللغوية والإنسانية، بل تمتد إلى المجالات التقنية الحديثة. فالمعجم ومدوّنته النصية المهيكلة والمؤرخة تشكّل موردًا معرفيًا فريدًا يمكن توظيفه في:

تطوير نماذج لغوية عربية متقدمة
تحسين تقنيات المعالجة الآلية للغة العربية
دعم تطبيقات الذكاء الاصطناعي والترجمة الآلية وتحليل النصوص
وبهذا يضع المعجم اللغة العربية في موقع فاعل داخل الثورة الرقمية، بدل بقائها في هامش التطور التكنولوجي.

مرجعية لغوية للأمة
يُنتظر من معجم الدوحة التاريخي أن يكون مرجعية علمية تسهم في:
ضبط وتوحيد لغة التعليم والإعلام والقانون
تحديث مناهج اللغة العربية والعلوم الإنسانية
دعم التخطيط اللغوي وحماية العربية من التشتت والازدواجية
تعزيز التنسيق بين المؤسسات العربية المعنية باللغة والتراث والهوية
فالمعجم، بما يملكه من عمق تاريخي وشمول معرفي، لا يخدم اللغة بوصفها أداة تواصل فقط، بل بوصفها حاملًا للهوية والذاكرة الحضارية.

إن اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية لا يعني بلوغ النهاية، بل يمثل بداية مرحلة جديدة في التعامل مع اللغة العربية: مرحلة تقوم على الفهم التاريخي، والدقة العلمية، والانفتاح على المستقبل. وهو إنجاز يؤكد أن اللغة العربية قادرة على مواكبة العصر، متى توفّر لها البحث الجاد، والرؤية بعيدة المدى، والإيمان بأن اللغة ليست ماضيًا نحتفي به، بل مستقبلًا نبنيه.
التالي
هذه أحدث تدوينة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق