تعليم رديء: قراءة في تفكيك الخرافات الدارجة في التعليم
يأتي كتاب تعليم رديء: تفكيك الخرافات الدارجة في التعليم (ترجمة نادية جمال الدين ويونس عبد الغني، عن المركز القومي للترجمة، 2017) ليشكّل وقفة نقدية جريئة أمام أكثر المقولات شيوعًا في ميدان التربية. المؤلفان، فيليب إيدي وجوستين ديلون، لا يكتفيان بمجرد استعراض هذه الأفكار، بل يواجهانها بلغة بحثية مدعومة بالأدلة العلمية، بغرض كشف هشاشتها، وإبراز كيف تسهم في تكريس تعليم سطحي، لا يعالج جوهر العملية التربوية ولا يطوّر فعليًا قدرات المتعلمين.
الكتاب ينطلق من فرضية أساسية: أن الرداءة في التعليم ليست نتيجة فشل فردي من معلّم أو طالب، بل هي انعكاس لبنية معرفية ومؤسسية تعيد إنتاج نفسها عبر تكرار "الخرافات التربوية". ومن هنا، تصبح مقاومة هذه الخرافات شرطًا أساسيًا لتأسيس تعليم حقيقي وفعّال.
أولًا: وهم تصنيف المتعلمين
من أكثر الخرافات شيوعًا تلك المرتبطة بتصنيف المتعلمين إلى أنماط أو فئات:
أنماط التعلّم (Learning Styles): الفكرة التي تقول إن بعض الطلاب يتعلّمون بصريًا وآخرون سمعيًا أو حركيًا، ويجب على المعلم تكييف الدرس وفقًا لذلك.
الذكاءات المتعددة (Multiple Intelligences): التصور القائل بأن الذكاء ليس واحدًا بل أنواع متعددة (لغوي، رياضي، موسيقي، حركي… إلخ).
الكتاب يبيّن، بالأدلة، أن هذه التصنيفات تفتقر إلى قاعدة علمية متينة، وأن تطبيقها في الصفوف لم يؤدِّ إلى تحسّن حقيقي في أداء المتعلمين. المثال العملي الذي يسوقه المؤلفان هو أنّ الطلاب، مهما اختلفت ميولهم، يحتاجون جميعًا إلى التعرض لمختلف أنماط المعرفة والوسائط، لأن التعليم الفعّال هو تفاعل معقّد يتجاوز مجرد "القالب" الذي يوضع فيه المتعلم.
ثانيًا: خدعة التكنولوجيا كمنقذ
تُقدَّم التكنولوجيا غالبًا بوصفها الحل السحري لمشكلات التعليم: السبورات الذكية، الأجهزة اللوحية، المنصات الرقمية… إلخ.
لكن المؤلفين يشددون على أن التكنولوجيا في ذاتها لا قيمة لها ما لم تُدمج في إطار تربوي نقدي.
على سبيل المثال، وفّرت بعض الحكومات آلاف الأجهزة اللوحية للطلاب، لكنها لم تحقق قفزة نوعية في نتائج التعليم. السبب أنّ التقنية استُخدمت كأداة شكلية، لا كجزء من رؤية تعليمية شاملة تُعيد التفكير في علاقة الطالب بالمعرفة.
التعليم، كما يوضح الكتاب، ليس مسألة "أدوات"، بل مسألة معنى، وبالتالي فإن التكنولوجيا لا يمكن أن تكون بديلًا عن المعلم أو المنهاج، وإنما عنصرًا مساعدًا يخضع لاستراتيجية تربوية واعية.
ثالثًا: صورة المعلّم
خرافة أخرى يناقشها الكتاب هي الاعتقاد بأن المعلم الجيد هو فقط من يجيد الإلقاء والتواصل. هذه الصورة المبسطة تختزل المعلم في دوره كـ"مؤدٍّ"، بينما الواقع أعمق بكثير.
المعلم، في منظور المؤلفين، هو:
صانع للمعنى.
محفّز للتفكير النقدي.
مُيسّر لحوار تفاعلي يحرّر المتعلم من التلقين.
على سبيل المثال، قد ينجذب الطلاب إلى معلم لبق، لكنه إذا لم يساعدهم على التفكير النقدي، فلن يحقق فرقًا طويل المدى في حياتهم المعرفية. المعلم الحقيقي هو الذي يفتح آفاقًا للطلاب لفهم العالم، حتى لو كان أسلوبه أقل "إبهارًا".
رابعًا: إشكالية "المدارس الجيدة"
من التصورات الراسخة أنّ هناك مدارس "جيدة" وأخرى "سيئة"، وأن الحكم على المدرسة يجب أن يكون مبنيًا على درجات الامتحانات أو السمعة. لكن الكتاب يكشف أن هذه التصنيفات تختزل العملية التعليمية في مؤشرات كمية ضيقة.
مثلًا: مدرسة ذات نتائج عالية في الاختبارات قد تحقق ذلك من خلال التركيز على الحفظ والتلقين، لا من خلال بناء عقل نقدي.
بينما مدرسة أخرى قد لا تظهر نتائج مذهلة في الامتحانات، لكنها تخرّج طلابًا أكثر إبداعًا وقدرة على حل المشكلات.
بهذا المعنى، يصبح الاعتماد على "المؤشرات الصلبة" فقط (كالدرجات) خرافة تخفي وراءها واقعًا أكثر تعقيدًا.
خامسًا: حجم الفصول والعدد المثالي
يشيع القول بأن تقليل عدد الطلاب في الفصل سيؤدي تلقائيًا إلى تحسين التعليم. لكن المؤلفين يوضحان أن العلاقة ليست بهذه البساطة.
صحيح أن الصفوف الصغيرة تسهّل التواصل الفردي.
لكن جودة التعليم لا ترتبط فقط بالعدد، بل بمهارة المعلم، ونوعية المنهاج، وفعالية الإدارة التعليمية.
مثال على ذلك: في بعض المدارس الخاصة، تكون الفصول صغيرة لكن التعليم رديء لغياب رؤية تربوية حقيقية. وفي المقابل، مدارس مكتظة بالطلاب قد تحقق نجاحًا إذا توافرت قيادة تربوية واعية.
سادسًا: التعليم كعملية اجتماعية وسياسية
الكتاب يؤكد أن التعليم ليس مجرد عملية معرفية محايدة، بل هو أيضًا عملية اجتماعية وسياسية. أي أنه يتأثر بالبنية المؤسسية، والثقافة المجتمعية، وحتى بالسياسات الاقتصادية.
عندما يُربط التعليم فقط بسوق العمل، يُختزل المتعلم في "أداة إنتاج" لا في إنسان متكامل.
عندما يُصاغ المنهاج ليعكس توجهات سياسية أو أيديولوجية، يفقد التعليم استقلاليته وقدرته على تطوير النقد الحر.
بهذا المعنى، فإن أي محاولة لإصلاح التعليم يجب أن تنطلق من وعي بطبيعته المركبة، لا من وصفات جاهزة أو حلول سريعة.
دعوة إلى التحرر من الخرافات
في خاتمة الكتاب، يوجه المؤلفان دعوة صريحة إلى المربين وصناع القرار:
التحرر من الاستسلام للأفكار الجاهزة.
إعادة بناء التعليم على أساس التفكير النقدي.
الاستناد إلى الأدلة العلمية لا إلى الشعارات.
فالتعليم، كما يشددان، ليس مجرد ممارسة شكلية، بل هو فعل إنساني عميق، يُعيد إنتاج الإنسان ويفتح أمامه أفق الحرية.
كتاب تعليم رديء: تفكيك الخرافات الدارجة في التعليم يضع المرآة أمام الممارسات التربوية السائدة، ويكشف أن كثيرًا مما نعتبره "حقيقة تعليمية" ليس إلا وهْمًا أو تبسيطًا مغلوطًا. وهو بذلك يسهم في دفع النقاش نحو إصلاح تعليمي قائم على النقد، والبحث العلمي، وإعادة الاعتبار للبعد الإنساني في التربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق