في عالم الفيزياء، ثمة لحظات تغيّر نظرتنا للواقع. من بين هذه اللحظات التجربة التي قام بها العالم الفرنسي ألان أسبكت في أوائل الثمانينات، والتي أثبتت أن الكون أغرب مما كنا نظن. أسبكت برّهِن تجريبياً، لا نظرياً فقط، أن الجسيمات المتشابكة (“entangled particles”) تتصرف بطريقة تبدو وكأنها تتبادل معلومات فورياً، حتى لو كانت على مسافات تفصل بينها آلاف الكيلومترات.
في هذا المقال سنشرح:
-
ما هو التشابك الكمي وما هو مفارقة EPR التي أثارت الجدل.
-
ماذا فعل أسبكت تحديداً.
-
لماذا لا يعني هذا “نقل معلومات أسرع من الضوء”.
-
أمثلة مبسّطة تساعد على فهم الفكرة.
-
تأثير هذه الاكتشافات اليوم والمبادئ التي غيّرت فهمنا للفيزياء.
ما هي مفارقة EPR وما هي التشابك؟
مفارقة EPR:
-
المفارقة سُميت بهذا الاسم نسبةً إلى أينشتاين – بودولسكي – روزن، في ورقة عام 1935، حيث تحدّثوا عن أن ميكانيكا الكم ربما تكون غير مكتملة.
-
الفكرة: إذا كان لدينا جسيمان تفاعلَـا ثم انفصلا، فيمكن أن يكون لديهما خواص متشابكة. إذا قست خاصية في الجسيم الأول، ستعرف فوراً خاصية الجسيم الثاني، حتى لو كان بعيدًا جدًا. هذا يبدو وكأنه “تأثير شبحي عن بعد” (spooky action at a distance) وهو ما رفضه أينشتاين لأنه يبدو أنه ينقض مبدأ النسبية الذي يقول إن لا شيء يمكن أن ينتقل أسرع من الضوء.
-
كما أن المفارقة تطرح سؤالين: هل توجد “متغيرات خفية” (hidden variables) تحدد مسبقًا هذه الخواص؟ أم أن الواقع نفسه لا يكون محددًا إلا عند القياس؟
التشابك الكمي:
-
عندما يكون جسيمان في حالة “متشابكة”، لا يمكن وصف حالة أحدهما بمعزل عن الآخر، حتى لو افترضنا أنهما منفصلان مكانياً.
-
التشابك يعني أن القياس على أحد الجسيمين فوراً يُحدّد حالة الآخر بطريقة إحصائية تعتمد على مخرجات القياس، بطريقة لا يمكن تفسيرها بواسطة قوانين فيزياء كلاسيكية بحتة.
ما الذي فعله ألان أسبكت؟
ألان أسبكت وفريقه نفّذوا سلسلة من التجارب في الفترة ما بين 1980-1982 بغرض اختبار مفاهيم مثل:
-
عدم المحليّة (Non-locality): أي أن نتائج القياس على جسيم ما يمكن أن تؤثر على جسيم آخر بعيد، بطريقة لا يمكن تفسيرها بتفاعل “محلي” (أي عبر وسيط يحتاج وقتًا ليصل).
-
انتهاك متباينات بيل (Bell inequalities): جون بيل اقترح معادلات يُفترض أن تُحقّقها أي نظرية تعتمد على المتغيرات المخفية المحلية. التجارب التي تكسر هذه المتباينات تدل على أن الواقع لا يمكن وصفه بواسطة متغيرات خفية محليّة فقط.
كيف أجرى التجربة:
-
استخدام فوتونات (أي جسيمات الضوء) متشابكة تُبعَث من مصدر مركزي إلى اتجاهين مختلفين.
-
وضع مستقطِبات (polarizers) في مسارين مختلفين، بحيث تُقاس قطبية (polarization) كل فوتون عند زوايا مختلفة.
-
تطوير التجربة بحيث تُغيَّر إعدادات المستقطِبات أثناء تحليق الفوتونات (أي بعد انطلاقهما، وقبل أن تصل القياسات) لضمان أن لا يكون هناك وقت كافٍ لأي “إشارة” تنقل من جانب إلى آخر في سرعة الضوء. هذا يساعد في إغلاق ما يُعرف بـ “locality loophole” أي ثغرة المحليّة.
النتائج:
-
تم تأكيد انتهاك متباينات بيل بصورة واضحة، مما يدعم تنبؤات ميكانيكا الكمّ بأن التشابك الكمي هو شيء فعلي، ليس مجرّد فكرة نظرية.
-
التجربة أقنعت المجتمع العلمي أن الفرضية التي تقول بأن “الواقع يجب أن يكون محددًا محليًا مسبقًا” (أي أن كل جسيم يحمل معلومات كاملة مستقلّة عن الآخر) لا تكفي لشرح النتائج.
هل هذا معناه “معلومات تُنقل أسرع من الضوء”؟
ليست بالضبط.
-
التشابك لا يسمح بإرسال رسالة مفيدة أسرع من الضوء. حتى لو أن قياسًا على أحد الجسيمات يُؤثر فوراً على الحالة الكمية للجسيم الآخر، لا يمكن للشخص الذي يقيس أن يختار بالضبط أي نتيجة تظهر (المقياس يعطي نتائج عشوائية جزئيًا).
-
ما يُظهره أسبكت هو أن نتائج القياسات مترابطة بطريقة لا يمكن تفسيرها فقط عبر ما يُعرف بالمتغيرات المخفية المحلية، ولكن ليس أن هناك “إشارة” يمكن إرسالها بين الجسيمين بسرعة تفوق الضوء.
أمثلة مبسّطة لتوضيح الفكرة
لنجرب بعض الأمثلة لتقريب الفكرة:
-
زوج من القفازات في صناديق مغلقةتخيل أنك تأخذ زوجًا من القفازات: واحدة لليد اليمنى، واحدة لليد اليسرى. تضع كل قفاز في صندوق مغلق وترسل صندوقًا إلى صديق يعيش بعيدًا، وصندوقًا تبقيه أنت. حينما تفتح الصندوق الخاص بك فتجد أن القفاز هو لليد اليمنى، فورًا تعرف أن الصديق لديه القفاز الأيسر. هذا مثال بسيط، لكن هنا المعرفة مسبقة، لا يحدث شيء غامض بعد الفتح.
-
الفرق مع التشابك الكميفي التشابك، لا يكون الجسيمان مهيّئين مسبقًا بأن أحدهما “يمين” والآخر “يسار”. بل يكونان في حالة مزيج (superposition) من الحالتين في آن واحد حتى يُجري أحدكم قياسًا. عند القياس، تُحدَّد حالة أحدهما وتُعرف الحالة الأخرى فورًا. إنَّ هذه “المعرفة” ليست نتيجة تحضير مسبق (كما في القفازات)، بل هي “انهيار حالة الكمّ” — وهو ما يُعتبر غريبًا حينما تكون المسافات كبيرة. المعادلة التي تشرح هذا الأمر تأخذ بعين الاعتبار أن الاحتمالات تكون متطابقة أو مترابطة بطريقة لا تستطيع نظرية محلية بسيطة تحقيقها.
-
تبديل زاوية القياس أثناء تحليق الفوتوناتلنفترض أن لديك مستقطِبًا تستطيع تغييره زاويته في اللحظة الأخيرة، أثناء تحليق الفوتون. الفوتان يطيران، لا تعرف أي زاوية ستقيس، ثم عندما تصل، تختار زاوية معينة. أسبكت فعل هذا تقريبًا ليتأكد أن لا يكون للمصدر أو الجسيمات أي "معلومات مسبقة" عن الزاوية التي ستُختار، مما يُزيل إمكانية أن الجسيمات “تتفق مسبقًا” على النتائج قبل أن يُقاس أي منها.
لماذا التجربة هامة؟ ما التغييرات التي أحدثتها
-
وفّرت أدلة قوية جدًا على أن الواقع الكمي لا يعمل وفق التصوّرات الكلاسيكية البسيطة. المفهوم بأن “الخصائص موجودة دائمًا، فقط يُكشف عنها القياس” أصبح أقل منطقية.
-
أنها فتحت الطريق لحقبة جديدة في الفيزياء تُعرف بـ الثورة الكمومية الثانية، التي تشمل الحسابات الكمومية، تشفير الكم، الاتصالات الكمومية، وأجهزة تستفيد من التشابك.
-
كما أن جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2022 مُنحت لألان أسبكت، جان كلوزيه، وأنتون زايلنجر، لـ “التجارب مع الفوتونات المتشابكة التي أثبتت خرق متباينات بيل، ومدًّت آفاقًا لعلم المعلومات الكمي.”
تحديات وأسئلة مفتوحة
-
كيف نفسّر “الانهيار” الفوري لحالة الكمّ؟ ما زال هناك جدل فلسفي بين مدارس تفسير ميكانيكا الكمّ (مثل تفسير كوبنهاغن، تفسير العوالم المتعددة، تفسير المتغيرات الخفية مثل نظرية بولميان).
-
هناك دائماً “ثغرات” تجريبية يُحاول العلماء إغلاقها، مثل ثغرة الكشف (detection loophole) أو ثغرة المحليّة (locality loophole) والتأكد من أن لا يكون هناك أي تفاعل “خفيّ”. أسبكت قام بخطوات كبيرة لإغلاق بعضها.
إن تجربة ألان أسبكت تُعلّمنا:
-
أن الواقع ليس دائماً كما يبدو لنا بالعقل البشري — في المستوى الكمي الواقع يمكن أن يكون مترابطًا بطريقة غامضة تفوق حدود المكان.
-
أن العلم لا يتوقف عند النظريات، بل يحتاج إلى تجارب دقيقة تُختبر الافتراضات التي نعتبرها بديهية.
-
أن التقدير والمكافأة قد يتأخران فقد انتُهِي إلى هذه النتائج المهمة بعد عقود من المناقشة والنظرية.
-
أن العلم يتيح معرفة متوازية مع التواضع: هناك أمور غامضة فعلاً، فحتى الآن لا يوجد تفسير نهائي لكيفية “انهيار الحالة” أو ما يعنيه ذلك من الناحية الميتافيزيقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق