كتاب "جسد لا يشيخ وعقل لا يحده الزمن": بين الروحانية والتناقضات العلمية

 

جسد لا يشيخ وعقل لا يحده الزمن: بين الروحانية والتناقضات العلمية

في عصر تتسارع فيه الأبحاث الطبية والتكنولوجيا الحيوية لمحاربة الشيخوخة وإطالة العمر، يبرز كتاب "جسد لا يشيخ وعقل لا يحده الزمن" لمؤلفه الشهير ديباك شوبرا كأحد أكثر الكتب مبيعًا وإثارة للجدل. يقدم هذا العمل مزيجًا من الفلسفة الشرقية، الطب البديل، والروحانيات، مستعرضًا رؤية مفادها أن الإنسان قادر على تجاوز حدود الزمن البيولوجي بالعقل والوعي.

لكن السؤال الأهم: هل ترتكز هذه الرؤية على أسس علمية متينة؟ أم أنها تُصنَّف ضمن "العلم الزائف"؟

أولًا: لمحة عن الكتاب ومؤلفه

ديباك شوبرا، طبيب هندي أمريكي وأحد أبرز وجوه الطب البديل، يعتمد في كتابه على فلسفة الأيورفيدا الهندية، ويخلطها بمفاهيم من فيزياء الكم، مقدّمًا وعودًا قد تبدو مغرية، مثل:

"إن الجسد يتبع العقل، وإذا اعتقد العقل أنه خالد، فإن الجسد لن يشيخ."

يرى شوبرا أن عملية الشيخوخة ليست أمرًا حتميًا، بل يمكن التحكم بها من خلال تغيير النظرة إلى الذات والواقع. يتحدى بذلك الفهم الطبي التقليدي لعلم الشيخوخة (Gerontology).

ثانيًا: الأفكار المركزية في الكتاب

1. العقل يوجه الجسد:

يركز شوبرا على أن الحالة النفسية والفكرية تؤثر بشكل مباشر على العمليات الجسدية. على سبيل المثال، يشير إلى أن:

"الخلايا تتجدد باستمرار، وما نعتقده عن أجسامنا يؤثر في هذا التجدد."

 هذه الفكرة جزئيًا مدعومة علميًا من خلال فرع علم النفس العصبي المناعي (Psychoneuroimmunology)، الذي يدرس العلاقة بين العقل، الجهاز العصبي، والجهاز المناعي.

 إلا أن شوبرا يتجاوز المعقول حين يوحي بأننا نستطيع "إلغاء" الشيخوخة بالتأمل والتفكير الإيجابي فقط، دون سند علمي مباشر.

2. الزمن ليس مطلقًا:

في محاولة لإقناع القارئ، يستشهد شوبرا بفيزياء الكم ليقول إن:

"الزمن من خلق العقل، وإذا غيرنا إدراكنا للزمن، فإن الجسد لن يتأثر بعمر السنين."

 هنا يقع في مغالطة شائعة؛ فهو يستخدم مفاهيم فيزياء الكم خارج سياقها. فبينما الزمن في الفيزياء قد يكون نسبيًا، إلا أن تطبيق هذه الفكرة على عمر الجسد البشري ليس له أساس تجريبي.

3. الوعي والتحول الجزيئي:

يدّعي شوبرا أن:

"العقل قادر على التأثير في الحمض النووي وتغيير برمجته."

 هذا الادعاء يفتقر إلى دليل علمي قاطع. فحتى مع وجود دراسات حول تأثير البيئة والتجارب النفسية على ما يُعرف بـ"التعبير الجيني" (epigenetics)، إلا أن القدرة على "إعادة برمجة الجينات بالنية فقط" تبقى غير مثبتة علميًا.

ثالثًا: الجوانب الإيجابية في الكتاب

بالرغم من الانتقادات العلمية، لا يمكن إنكار أن الكتاب يروج لسلوكيات صحية مفيدة، مثل:

  • ممارسة التأمل واليوغا: والتي أظهرت دراسات عدة تأثيرها الإيجابي على التوتر، النوم، والمزاج.

  • الاهتمام بالتغذية والنوم: وهي من أبرز عوامل دعم الصحة على المدى الطويل.

  • تبني العقلية الإيجابية: التي يمكن أن تعزز مناعة الجسم وجودة الحياة.

 على سبيل المثال، يقول شوبرا:

"في كل لحظة، لديك خيار: أن تختار أفكارًا تُحييك، أو أفكارًا تُنهكك."

هذه العبارة تعكس فكرة وجود تأثير فعلي للأفكار والمعتقدات على سلوك الإنسان وصحته النفسية، وهو ما تؤكده نظريات العلاج المعرفي السلوكي (CBT).

رابعًا: وجهات نظر علمية نقدية

واجه كتاب "جسد لا يشيخ وعقل لا يحده الزمن" انتقادات واسعة من عدد من العلماء والباحثين في مجالات علمية متعددة، أبرزها علم الأحياء والفيزياء النظرية. من بين أبرز المنتقدين، عالم الأحياء التطوري الشهير ريتشارد دوكينز، الذي وصف ديباك شوبرا بأنه يستخدم "لغة علمية" لإضفاء مصداقية زائفة على أفكار لا تستند إلى دليل علمي. وقد أشار دوكينز في أكثر من مناسبة إلى أن شوبرا يخلط المفاهيم العلمية الحقيقية، مثل "فيزياء الكم" و"الجينات"، بمفاهيم روحانية وفلسفية، ما يخلق انطباعًا مضللًا لدى القارئ العام.

أما في مجال الفيزياء النظرية، فقد عبّر البروفيسور ديفيد ألبيرت، أستاذ فيزياء الكم في جامعة كولومبيا، عن رفضه الشديد لاستخدام شوبرا لعبارات مثل "الوعي الكمومي"، معتبرًا ذلك "تشويهًا علميًا صريحًا". وأوضح أن ما يقدّمه شوبرا لا يمت بصلة إلى المبادئ الدقيقة لميكانيكا الكم، بل يعتمد على إسقاطات فلسفية غير قابلة للقياس أو التحقق التجريبي، وهو ما يتعارض مع جوهر المنهج العلمي.

وفي السياق ذاته، نشرت مجلة Nature العلمية المرموقة مقالة تحذر من انتشار كتب تدّعي استلهامها من فيزياء الكم، وتروّج لتفسيرات غير دقيقة أو حتى مغلوطة، مستخدمة مصطلحات علمية حقيقية في سياقات غير قابلة للاختبار أو الإثبات. ووصفت المقالة هذا النوع من الكتابات بأنه يعزز "العلم الزائف" (pseudoscience) لأنه يقدم معلومات مغلوطة للقارئ العادي تحت غطاء من المصداقية الظاهرة.

تُظهر هذه الانتقادات أن التفاعل مع كتاب شوبرا يجب أن يكون حذرًا، مع تمييز واضح بين التحفيز الذهني أو الروحي من جهة، وبين الدقة العلمية من جهة أخرى.

خامسًا: التوازن المطلوب في قراءة هذا النوع من الكتب

من المهم عند قراءة كتاب مثل "جسد لا يشيخ وعقل لا يحده الزمن" أن يتعامل القارئ معه بتوازن ووعي نقدي. فالكتاب، رغم ما يحتويه من مبالغات ومفاهيم مثيرة للجدل، يمكن أن يكون أداة فعالة للتأمل والتحفيز الشخصي، لا سيما أنه يشجع على العناية بالنفس، والتفكير الإيجابي، وتبني نمط حياة صحي. مثل هذه الرسائل قد تكون مفيدة جدًا في دعم الصحة النفسية وتحقيق التوازن العاطفي في الحياة اليومية.

مع ذلك، لا ينبغي النظر إلى هذا العمل باعتباره مرجعًا طبيًا أو علميًا موثوقًا. فالكثير من المزاعم التي يقدمها، خاصة تلك المتعلقة بإمكانية التحكم في العمر البيولوجي أو إعادة برمجة الحمض النووي بواسطة العقل وحده، لا تستند إلى أساس علمي مثبت. لذا، من الضروري أن يحرص القارئ على التحقق من صحة هذه الادعاءات من خلال الرجوع إلى مصادر طبية وعلمية موثوقة ومعترف بها عالميًا، مثل موقع Mayo Clinic، ومنشورات Harvard Health Publishing، أو المواقع الرسمية التابعة لـ المعهد الوطني الأمريكي للشيخوخة (NIH - National Institute on Aging).

القراءة المتوازنة لهذا النوع من الكتب تتطلب الجمع بين الانفتاح الذهني لتلقي الأفكار التحفيزية، والصرامة العقلية في التحقق من المزاعم العلمية، حتى لا يقع القارئ في فخ التضليل أو الخلط بين العلم والروحانية.

 بين الإلهام والمبالغة

يبقى "جسد لا يشيخ وعقل لا يحده الزمن" كتابًا ملهِمًا، لا شك في ذلك. فهو يدعو إلى التأمل، واتباع نمط حياة صحي، والنظر إلى الشيخوخة نظرة جديدة. لكن من الضروري التفريق بين الإلهام الروحي والحقيقة العلمية. فبينما يستطيع العقل التأثير على الجسد في بعض الجوانب، إلا أن تجاوز حدود الزمن البيولوجي ما زال في طور البحث، وليس واقعًا مثبتًا.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق