حين طلب إليّ أبي رحمه الله أن أعيد كتاب شذرات الذهب إلى صديقه المكتبيّ شقّ عليّ ان أفترق عن ذلك الكتاب الذي أحضره والدي ليطلع في أخباره و تاريخه و قد كنت أكثر من لازم الكتاب و سبر ما يحويه من الأخبار.
كنت في الطريق و أنا أعبر زقاقا طويلا ضيقا أتصفّح الكتاب و أنغمس بين صحائفه كآخر ما يكون بيني و بينه دون أن أعير الطريق كثير انتباه فهو جادة مألوفة أعبر إليها من قوس على مدخل قبة ينكسر عندها زقاقان يخرج أحدهما عند قوس آخر ينفرج على واجهة الجامع الكبير.
و في تلك الآونة لم تكن بغداد بالمدينة الآمنة و كانت أزقتها و حتى مساجدها تضجّ بالفتن بين مذاهبها و طوائفها و سطوة أمرائها و احتدام الصراع و اشتداد الحقد و العصبية.
لفتني عند باب المسجد ذلك الغلام الذي أعرفه في أبناء الجيران و رفقاء الحي، قبل أن أسأله في دهشتي انتبهت إلى وجودنا معا في أزقة بغداد و كيف وصلنا هنا و كبف التقينا.
أخبرني دون انتظار كأنه لم تكن تسكته تلك الحيرة التي بي، قال: عندما كنت ألعب البارحة مع أترابي و أختبئ منهم دخلت باب حوش من ذلك الزقاق المظلم أبحث عن ركن يحجبني عنهم و هم يجدون في البحث عني، كان المدخل معتما من غير بصيص أو شعاع، وضعت يدي على الجدار أتلمس طريقي فاحسست بيد تمسك بها و تشدها، قال: فنترتها و هربت و خرجت إلى الزقاق فزعا ثم إلى بيتي و لا أعرف يد من كانت تلك اليد.
سحبت أصابعي من بين صفحات الكتاب و دسسته في كيسه، لكنني بعد أن نظرت في عينيه لم أشأ أن أخبره أنه لو دخل إلى صحن البيت لوجد النسوة يفتلن الطعام في قصاع كبيرة على ضوء القمر، و أن الجدة العمياء كانت تشرف على تلك الحلقة من النسوة، تتلمس بأصابعها الكسكس المفتول و تومئ بتحريك رأسها تشير إليهن أن يغادرن قبل أن تستيقظ صاحبة الدار فقد نبهتها أصوات الأواني و القصاع و الجلبة التي في صحن الدار و في مطبخها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق