شذرات الذهب - نص العيد بن منصور

شذرات الذهب


 حين طلب إليّ أبي رحمه الله أن أعيد كتاب شذرات الذهب إلى صديقه المكتبيّ شقّ عليّ ان أفترق عن ذلك الكتاب الذي أحضره والدي ليطلع في أخباره و تاريخه و قد كنت أكثر من لازم الكتاب و سبر ما يحويه من الأخبار.

كنت في الطريق و أنا أعبر زقاقا طويلا ضيقا أتصفّح الكتاب و أنغمس بين صحائفه كآخر ما يكون بيني و بينه دون أن أعير الطريق كثير انتباه فهو جادة مألوفة أعبر إليها من قوس على مدخل قبة ينكسر عندها زقاقان يخرج أحدهما عند قوس آخر ينفرج على واجهة الجامع الكبير.
و في تلك الآونة لم تكن بغداد بالمدينة الآمنة و كانت أزقتها و حتى مساجدها تضجّ بالفتن بين مذاهبها و طوائفها و سطوة أمرائها و احتدام الصراع و اشتداد الحقد و العصبية.
لفتني عند باب المسجد ذلك الغلام الذي أعرفه في أبناء الجيران و رفقاء الحي، قبل أن أسأله في دهشتي انتبهت إلى وجودنا معا في أزقة بغداد و كيف وصلنا هنا و كبف التقينا.
أخبرني دون انتظار كأنه لم تكن تسكته تلك الحيرة التي بي، قال: عندما كنت ألعب البارحة مع أترابي و أختبئ منهم دخلت باب حوش من ذلك الزقاق المظلم أبحث عن ركن يحجبني عنهم و هم يجدون في البحث عني، كان المدخل معتما من غير بصيص أو شعاع، وضعت يدي على الجدار أتلمس طريقي فاحسست بيد تمسك بها و تشدها، قال: فنترتها و هربت و خرجت إلى الزقاق فزعا ثم إلى بيتي و لا أعرف يد من كانت تلك اليد.
سحبت أصابعي من بين صفحات الكتاب و دسسته في كيسه، لكنني بعد أن نظرت في عينيه لم أشأ أن أخبره أنه لو دخل إلى صحن البيت لوجد النسوة يفتلن الطعام في قصاع كبيرة على ضوء القمر، و أن الجدة العمياء كانت تشرف على تلك الحلقة من النسوة، تتلمس بأصابعها الكسكس المفتول و تومئ بتحريك رأسها تشير إليهن أن يغادرن قبل أن تستيقظ صاحبة الدار فقد نبهتها أصوات الأواني و القصاع و الجلبة التي في صحن الدار و في مطبخها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق