مراجعة نقدية
لكتاب: ظاهرةالتقمص وعلاقتهابالاضطرابات التفارقية
للكاتبة الدكتورة:ألحان نجيب الجردي
بقلم: النوبي الجنابي
"أنا اختبرت الموت"
ظاهرة التقمص: ثواب أم عقاب
ماذا لو أخبرك أحدهم وقال لك: أنا اختبرت الموت.
أول ما يتبادر على ذهنك أنه لا يقولها على وجه الحقيقة، ففكرة الموت ثم العودة إلى الحياة غير واردة في حياتنا، فما بالك لو كانت واقعًا حقيقيًا، تنم عنها الكثير من الشواهد والأحداث والأماكن، وأيضًا الشخصيات المحيطة والتي تشهد بصدق هذه الأحداث.
"أنا اختبرت الموت"، هذه الجملة جاءت على لسان (ن/ح) أحد الذين يعايشون التقمص، والذين أُجريت عليهم دراسة عياديه تحليلية في منطقة جبل لبنان، والتي قامت بها الدكتورة/ ألحان نجيب الجردي، في كتابها (ظاهرة التقمص وعلاقتها بالاضطرابات التفارقية ). والذي تستعرض فيه مفهوم التقمص وأنواعه ومظاهره وعلاقته بالاضطرابات التفارقية،
وذلك تطبيقًا على أفراد يُعايشون ظاهرة التقمص.
هذه الظاهرة التي استعرضها الكتاب من بدء الحضارات القديمة والمعتقدات الدينية، وأيضًا الأساطير، بل من حيث وجودها أيضًا في فكر الفلاسفة أمثال أفلاطون وفيثاغورث. هذا الاستعراض الذي ينم عن فهم عميق وتقصي لهذه الظاهرة بعيدًا عن قدرات البارا سيكولوجي، بحثًا عن تفسير علم النفس لها وتحليل أشكالها وأنواعها المختلفة، ودراسة ظاهرة التقمص كحالة وجدانية وإدراكية مرتبطة بالهوية والذاكرة والمفاهيم المعرفية.
وقد أكدت بعض الدراسات على وجود نوعين من ظاهرة التقمص: نوع واهم ناتج عن تخالط الأفكار، ونوع واقعي مرتبط بزمان ومكان واحداث حقيقية .
ونحن هنا لا نتحدث عن التقمص كظاهرة مرضية، فهذا ما استوفاه الكتاب وأوضحت جوانبه الباحثة خير إيضاح، ولكن نحن هنا نلج أبواب النفس من حيث تحققها وذاتيتها ونتساءل بعد قراءتنا لهذا البحث:
مَن أنا ؟ ومن هو ؟ كذات تتحقق في الوجود، أو هو سؤال عن التصور والخصائص والاختلافات وأهميتها، ومدى الوعي الفردي الذي يعي الذات، أم هو أيضًا محض افتراض.
الذات بشكل عام: إنها مجموعة من القوى والاتجاهات والوظائف، أو أنها التنظيم المركب لخصائص الفرد؛ وهو يجعلها تقابل ما يقال له في اصطلاحات الدراسات النفسية "الشخصية"، أو أنها مركز الوحدة فوق الثنائيات والتعددات التي في الإنسان وخصوصًا "ثنائية الجسم والذهن".
وسوف نعتبر الذهن هنا المقابل للجسم وهو جوهريًا: صاحب الخطة والمشروع بإزاء المستقبل، وحامل التذكر الموحد لكيان الفرد بما يحمله من الماضي، والقادر أيضًا على استكشاف الذات، وإدراك العالم والمُدرِك لنفسه في أثناء إدراكه للعالم وللغير.
وفي الحالات التي استعرضها البحث، وأجرى عليها دراسات عيادية نجد ثنائية في التصور والذكريات، وتفكك للوعي الشعوري، وإحساس بالغربة عن الواقع وعدم القدرة على الشعور بواقعية الحياة، واغتراب النفس والهوية الذاتية؛ فيحدث إحساس بالانفصال عن الذات وكأنها كيان غريب عن إدراك الفرد، فيتم خلق أنا بديلة للاحتماء من مشاعر الخوف.
وبرغم عدم القول بالتناسخ في جميع الأديان السماوية، إلا أن تأثير المعتقدات الاجتماعية والدينية والطقوس والممارسات الروحية الراسخة في الوعي و اللا وعي لها أكبر الأثر في نشوء هذه الاضطرابات التفارقية أو تعدد الشخصيات.
فنحن نجد مثلًا عند الصوفية ما يسمونه التوحد الكوني أو تبدد الشخصية في ذات المحبوب أو النور الأزلي، أو ما يسميه أفلاطون "عالم المثل"، أو عالم الحقيقة الكاملة . ونجد مثل ذلك في المانوية والبوذية وأغلب سكان أفريقيا.
وهنا نتساءل: هل التقمص ثواب أم عقاب؟
أولا: ربما يكون التقمص غير ذلك تمامًا؛ فيكون في هذه الحالة شعور وجداني وفكري فريد، يعيشه الفرد ويتكيف معه بل ويستمتع به.
فنح لا نعرف أو نشعر بوجه الدقة ما تشعر به (ر/ع)، هذه الام التي انتحرت وتركت ابنتين من وراءها، ثم عادت في شخصية أخرى في عمر السادسة لتعيش مع هاتين البنتين حياة الأم وتقوم بدورها، تلك الحالة التي لولا هذا البحث ما كنا صدقنا بوجودها. أن تكون أم في سن السادسة، أليس هذا حدثًا فريدًا، وحياةً أخرى بكل مشاعرها وعواطفها .
فإذا نظرنا إليها من خلال رؤية أفلوطين؛ نجد حالتها عقابًا لها حتى تتوب عن فعل الانتحار، وإذا نظرنا إليها من خلال معتقدات البوذية؛ نجدها في حالة تطهر لتصل إلى مرحلة النيرفانا.
وفي حالة أخرى (س/غ)، والتي قتلها زوجها ولديها ابنة كانت في الرابعة وقتها، وإذا بـ (س/غ) تتذكر وهي في الرابعة أيضًا تلك الحادثة وهذه الابنة؛ فتسعى بحثًا عنها حتى تجدها وهي في الحادية عشر من عمرها، وإذا بكل شيء حقيقي وواقعي: سوى أنها أم في الرابعة من عمرها لفتاة تكبرها بسبع سنين.
هنا تشدنا غرابة الواقع الإنساني بكل ما فيه، ويأخذنا إلى الذات كيف تظهر وكيف تنكشف وإلام تصير؟ وما علاقتها بالجسم، وما علاقتها بنفسها وبالغير وبالعالم؟
هنا يتجذر العالم الإنساني في التنوع والاختلاف والمفارقات، حتى يصبح الشيء ونقيضه في آن واحد.
وهنا لا أستطيع إلا أن أكرر ما توصلت إليه هذه الدراسة وهذا البحث "أن تشخيص وجود اضطراب معين لا يعني بالضرورة وجود المعاناة المرضية". بل اعتبرها غرائب إنسانية تتصل بعالم أكبر من عالمنا، لتعيش حيوات أخرى وتجارب مختلفة لتقول لنا: هذا هو الإنسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق