سيرة ابن حزم الظاهري الأندلسي

ابن حزم الأندلسي، الرجل الذي دار حوله الجدل، وتنوّعت عنه الدراسات، حتى استغرقت شتى المجالات: الأدبية واللغوية والفكرية والفلسفية والمنطقية والاجتماعية والتاريخية والفقهية والأصولية والحديثية والقرآنية... فكان محلّ تسليط الأضواء، واتجهت إليه أنظار طلبة العلم والباحثين، واحتاج الناس إلى تعريفٍ شامل به، يشمل نواحيه الشخصية والعلمية والاجتماعية... فلأجل ذلك جاءت هذه السيرة:

1.   التعريف بابن حزم:

هُوَ (أَبُو مُحَمَّد) عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بنِ سَعِيْدِ بنِ حَزْمِ بْنِ غَالِبِ بْنِ صَالِحِ بْنِ خَلَفِ بْنِ مَعْدَانَ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ يَزِيدَ، الفَارِسِيُّ الأَصْل، ثُمَّ الأَنْدَلُسِيُّ القُرْطُبِيُّ مولداً ونشأةً، الظَّاهِرِيُّ منهجاً، الْيَزِيدِيُّ ولاءً؛ فَكَانَ جَدُّهُ يَزِيدُ موْلًى لِلصَّحابِيّ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ -أَخِي مُعَاوِيَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم-، وَكَانَ جَدُّهُ خَلَفُ بْنُ مَعْدَانَ هُوَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ الْأَنْدَلُسَ فِي صَحَابَةِ مَلِكِ الْأَنْدَلُسِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّاخِلِ.

وُلِد أَبُو مُحَمَّدٍ بقُرطبةَ سَنَةَ 384هـ/ 994م، وعاشَ فِي الأَنْدَلُسِ. ونَشَأَ فِي تَنَعُّمٍ وَرَفَاهِيَةٍ، وَرُزِقَ ذَكَاءً مُفْرِطاً، وَذِهْناً سَيَّالاً، وَكُتُباً نَفِيسَةً كَثِيرَةً، وَكَانَ وَالِدُهُ مِنْ كُبَرَاءِ أَهْلِ قُرْطُبَةَ؛ عَمِلَ الْوِزَارَةَ فِي الدَّوْلَةِ الْعَامِرِيَّةِ الّتي حَكَمَت الأنْدَلُس بِاسْم الخَلِيفَة الأُمَويّ "هشام المؤيد"، وَكَذَلِكَ وَزَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي شَبِيبَتِهِ، وَكَانَ قَدْ مَهَرَ أَوَّلاً فِي الْأَدَبِ وَالْأَخْبَارِ وَالشِّعْرِ، وَفِي الْمَنْطِقِ وَأَجْزَاءِ الْفَلْسَفَةِ، فَأَثَّرَتْ فِيهِ([1]).

وقد هيَّأ له الله نساءً فُضْلَياتٍ في القصر قُمْنَ على تربيته وتعليمه -كما روى هو عن نفسه([2])-، ونلحظ ذلك من كونه حفظ القرآن على أيديهنّ، إضافةً إلى ذلك كان والده من العلماء الكبار المشهود لهم بالخير وسعة العلم وحسن الخُلُق([3]).

هذا، وقد ألْحَقَ زوال الدولة العامرية واستيلاء البربر على قرطبة عام 400هـ وتعاقُب الفتن فيها؛ أذىً كبيراً بأسرة ابن حزم. ومما زاد الأمر سوءاً وفاة أخيه الأكبر بالطاعون عام 401هـ، ثم وفاة أبيه عام 402هـ، ثمّ زوجتُهُ "نِعَم" التي فُجع بموتها ابن حزم وكتبَ فيها مراثيه. كل ذلك ولم يبلغ العشرين من عمره حينها؛ وهذه الظروف جعلت ابن حزم يتحمل مسؤولية أسرته، وقد اضطر -شأن كثير من الأسر القرطبية- للنزوح إلى "المريّة" عام 404هـ. وكتب يصف حاله: «ما انتفعتُ بعيشٍ، ولا فارقني الإطراق والانغلاق مذ ذقت طعم فراق الأحبة... ولقد نغّص تذكّري ما مضى كلَّ عيشٍ أستأنِفه. وإنّي لقتيل الهموم في عداد الأحياء، ودفين الأسى بين أهل الدنيا»([4]).

هذا، وقد توفي ابن حزم -رحمه الله- عن عمر يناهز اثنتين وسبعين عاماً، حيث وافته المنية وهو مُبعَد إلى بادية "لبلة" في الأندلس، عشية يوم الأحد لليلتين بقيتا من شعبان، سنة (456هـ) ([5]).

وفي رثائه لنفسه قال([6]):

كأنكَ بالزوار لي قد  تبـادروا          وقيــل لهــم أودَى عليُّ بن أحمــدِ

فيا رُب محزون هناك  وضاحكٍ         وكم أدمــعٍ تذرى وخـــّد  مخـددِ

عفا الله عني يوم أرحـل ظاعناً       عن الأهل محمولاً إلى ضيق ملحدِ

وأترك ما قد كنت مغتبطاً بـهِ          وألقى الـذي آنست منـه بمرصدِ

فوا راحتي إن كان زادي مقدماً          ويـا نصَبي إن كنتُ لم أتــــزودِ

 

2.   الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في عهد ابن حزم([7]):

لقد عاش ابن حزم في فترة من أول الفترات التي نادت بالفرقة في الأندلس وكانت الفتيل التي اشتعل لينتهي بسقوط الأندلس بعد أربعة قرون.

لقد شهد ابن حزم سقوط الدولة العامرية (الأموية -اسمياً-) وعاش في عصر ما يسمى (الطوائف) والتي تقسمت فيه الأندلس إلى إمارات وممالك متعددة.

هذه الحياة كان لها ملامح خاصة سياسياً واجتماعياً وثقافياً.

أولاً: الحالة السياسية:

بدأت خلافة (هشام المؤيد) الأموي حين خلف والده الحكم بن عبد الرحمن الناصر في حكم الأندلس لما توفي عام 366هـ، وكان لا يزال هشام صبياً جاوز العاشرة بقليل، ضعيف العقل، محدود الذكاء، وأمه أم ولد تسمى (صبحاً)، ولما كان الأمر لا يستقيم بخلافة هذا الصبي برز المنصور بن أبي عامر كقوّة مساندة له، واستطاع بذكاء منه استمالة (صبح) أم هشام حتى نجح في الإمساك بمقاليد الأمور، ومن ثم رسم الخطة للقضاء على الخصوم والمنافسين، وتلقّب بـ (الحاجب) واستطاع أن يؤسّس حكومة قوية بأعوان من غير العرب، واتخذ الوزراء الأقوياء والذين كان منهم أحمد بن سعيد والد علي بن حزم، وبلغ من ذروة الحكم أن علا نجمه حتى طغى نفوذ العامريين على الخلافة الأموية، فنفذت الكتب والمخاطبات والأوامر باسمه، وأمر بالدعاء له على المنابر عقب الدعاء للخليفة الذي بقي له من رسم الخلافة الدعاء على المنابر وكتابة اسمه في السكة فحسب.

وكان المنصور شريف البيت مشتغلاً بالعلم، طلب العلم وسمع الحديث، وكان قوي الهمة، خاض في سني حكمه خمسين معركة لم يُهزم في أي منها، واستتب الأمر للرعية بالأندلس وعاد للأندلس هيبتها، ونعم الناس في حكمه الذي طال مدة سبع وعشرين (27) سنة.

وقد خلفه في الحكم ابنه عبد الملك لما توفي المنصور عام 392هـ، وكان كأبيه كفاية ومقدرة لكن لم يلبث أن توفي بعد نحو سبع سنوات في عام 398هـ، وتنتهي الدولة العامرية واقعياً بوفاته، حيث إن ولده عبد الرحمن أجبر هشام الخليفة على خلع نفسه ليتولى هو الخلافة، فثار البربر على ذلك ونادوا بتنصيب خليفة آخر لقبوه (المهدي بالله) وكان عبد الرحمن الحاجب في إحدى غزواته فلما رجع قتل سنة 399هـ، ولم تطل مدة (المهدي) حيث تشدد مع البرابرة فخلعوه وبايعوا سليمان بن الحكم بن الناصر الذي تلقب بالمستعين سنة 400هـ، فذهب (المهدي) مستنجداً بالنصارى وقاتل (المستعين) ومعه البربر فانهزم المهدي وقتل، ومن ثم أعاد البربر الأمر لهشام المؤيد عام 403هـ.

وما لبث هشام المؤيد أن قتل، وأعيد المستعين سليمان بن الحكم، وكان إذ ذاك ظهر علي بن حمود العلوي مستعلياً الخلافة مدعياً أن هشاماً المؤيد كتب له بولاية العهد، وقد تابعه البربر وخرجوا عنه إلى قرطبة ودارت معركة بينهم وبين (المستعين) ومن معه، انتهت بمقتل المستعين سنة 407هـ.

ودب آنذاك الخراب في قرطبة فانهدم كثير من دورها بما فيها دار آل حزم، ويضيف إلى ذلك أبو محمد بن حزم فيقول:

"ولقد أخبرني بعض الوزراء من قرطبة، وقد استخبرته عنها، أنه رأى دورنا ببلاط مغيث في الجانب الغربي منها وقد انمحت رسومها وطمست أعلامها وخفيت معاهدها، وغيَّرها البِلَى، وصارت صحاري مجدبة بعد العمران، وفيافي موحشة بعد الأنس، وخرائب منقطعة بعد الحسن، وشعاباً مفزعة بعد الأمن، ومأوى للذئاب، ومعازف للغيلان، وملاعب للجان، ومكامن للوحوش".

وفي عام 408هـ ظهر عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن الناصر بـ (بلنسية) وبايعه أكثر أهل الأندلس وتلقب بـ(المرتضي) واستوزر ابن حزم وسار إلى قرطبة، إلا أن البربر قابلوه بغرناطة وألحقوا به الهزيمة وأُسر ابن حزم ثم أطلق سراحه ونجا المرتضى بنفسه، وبقيت قرطبة في أيدي (بني حمود) حتى عام 414هـ، حيث ثار عليهم أهل قرطبة وبايعوا عبد الرحمن بن هشام المستظهر واستوزر ابن حزم أيضاً، إلا أن المستكفي محمد بن عبد الرحمن ثار عليه وقتله عام 414هـ واستقل بقرطبة قريب الستة عشر شهراً، ثم رجع الأمر إلى المعتلي بن حمود عام 415هـ، وبايع الناس هشام بن محمد أخا المرتضى عام 418هـ وتلقب بـ (المعتضد بالله) وكان بالثغر ولم ينزل دار الخلافة إلا آخر سنة 420هـ، وكان من وزرائه أيضاً أبو محمد بن حزم، إلا أن الأمر لم يدم طويلاً إذ خلعه الجند سنة 422هـ، وهو تاريخ انهيار الدولة الأموية بالأندلس.

ثم توالت الملوك والطوائف على قرطبة يحكمها بنو جهود ثم المعتمد بن عباد من العباديين الذي أحرَقَ ثانيهم (المعتضد) كتبَ ابن حزم -رحمه الله تعالى-.

وبقيت قرطبة بأيدي العباديين حتى دخول المرابطين عام 484هـ.

ولنا وقفة مع هذا الزخم السياسي، فإن أبا محمد بن حزم قد وقف منها موقفاً سلبياً في شبابه، حيث ولي الوزارة غير مرة، إلا أنه بعد أفول الدولة الأموية بالأندلس وكأنه قد طلّق السياسة بغير رجعة، وتشير مجموعة مصنفاته وقلة تلامذته إلى نوع من العزلة التي فرضها على نفسه ولا سيما وقد كانت نفسه أبية، أبت المداهنة لأمراء الطوائف الذين قسموا البلاد وأضروا بالعباد، وهم لم يألوا جهداً أن يوصلوا أنواع الأذى إليه من طرد واضطهاد بل وأشد من ذلك وهو حرق الكتب التي كانت أعز عليه من كل متاع الدنيا.

لقد صقلت هذه المحن ابن حزم، فصار ينظر إلى هؤلاء على أنهم سبب الفساد في البلاد وأسباب الفتنة لا يتحملها فرد دون آخر، ولا أمير سوى وزير، وإن كان ابن حزم يحمّل البربر النصيب الأكبر من ذلك، لأن المعترك المروع من التمزق والفوضى الذي كان بالأندلس يتحمل مسؤولياته الجميع.

إن انصراف أبي محمد عن السياسة وتقلباتها أعطاه فرصة للتصنيف لم تتح لكثير من العلماء، كما أثرت في لهجته فاعتراها شيء من العنف ظهر في لغته وتواليفه.

وابن حزم كان كيّساً حذقاً في نقده للروايات السياسية، يقول واصفاً الصراع في رسالته "التلخيص لوجوه التخليص": "وأما ما سألتم عنه من سر هذه الفتنة وملابسة الناس بها مع ما ظهر من تربص بعضهم ببعض، فهذا أمر امتحنا به، نسأل الله السلامة، وهي فتنة سوء أهلكت الأديان إلا من وقى الله تعالى من وجوه كثيرة يطول لها المقام".

 ثانياً: الحالة الاجتماعية:

نزل بلاد الأندلس خليط من الناس من كل أجناس الأرض واستوطنوها بكل ما لديهم من عادات وتقاليد، وكثر عدد أهل الأندلس، فأدى الاحتكاك بين هذه الفئات إلى بروز شيء من الصراعات الاجتماعية، وأطلت النزاعات بين أصحاب الفرق والمذاهب على البلاد، كما كان ثمة تفاعل بها، اجتماعي وفكري بين المسلمين وغير المسلمين.

يصف المقري أهل الأندلس فقال: "إنهم عرب في الأنساب، والعز، والأنفة، وعلو الهمم، وفصاحة الألسن، وطيب النفوس، وإباء الضيم، وقلة احتمال الذل، والسماحة بما في أيديهم، والنزاهة عن الخضوع، وإتيان الدنية، هنديون في فرط عنايتهم بالعلوم، وحبهم فيها، وضبطهم لها، وروايتهم؛ وبغداديون في نظافتهم، وظرفهم، ورقة أخلاقهم، ونباهتهم وذكائهم، وحسن نظرهم، وجودة قرائحهم، ولطافة أذهانهم، وحدة أفكارهم، ونفوذ خواطرهم، ويونانيون في استنباطهم للماء، ومعاناتهم لضروب الغراسات، واختيارهم لأجناس الفواكه، وتدبيرهم لتركيب الشجر، وتحسينهم للبساتين بأنواع الخضر، وصنوف الزهر، فهم أحكم الناس لأسباب الفلاحة، وهم أصبر الناس على مطاولة التعب في تجويد الأعمال، ومقاسات النصب في تحسين الصنائع، أحذق الناس بالفروسية، وأبصرهم بالطعن والضرب".

وكانت قرطبة من أكثر بلاد الأندلس ازدحاماً، فقد قدرت بعض المصادر أن عدد سكانها قد بلغ نصف المليون، وقيل بل المليون نسمة.

وإذا صدق أن دُور العامة بلغت (113077) داراً، ودُور الأكابر بلغت (60300) داراً، وبها من الفنادق (1600) فندقٍ، فإنه يمكن أن يبلغ عدد سكانها هذه الأعداد الكبيرة التي ذكرت، ومن خلال هذا العدد نشأت تفاعلات اجتماعية بين الأجناس بوضوح وتميز.

كما برزت آنذاك المرأة عالمةً ومؤثرةً في الحياة العامة، ونشطت المحاورات والمناظرات الفكرية، وأيضاً عمت مظاهر الثراء والترف ساكني تلك البلاد، ورغم الصراعات والنزاعات الوقتية، إلا أن الحالة العامة للسكان كانت تميل للترف، ولاسيما وقد كانت الطبيعة تضرب بسهمها في ذلك، فكانت قرطبة تقع وسط سهل فسيح يمتد على ضفتي الوادي الكبير، تمتد الخضرة على مرمى البصر أميالاً وأميالاً، فلم يكن بقرطبة متسول، فإنه بحسبه أن يأخذ أرضاً يزرعها.

ونظمت الحركة التجارية وأقيمت أسواق متخصصة للبضائع المختلفة، ورصفت الطرق، وتم إيصال المياه للمساجد والبيوت بأنابيب الرصاص، وتفنن المعماريون في البناء ولا يزال جامع قرطبة العظيم ماثلاً ببنائه، مع القصور المنيفة التي لا مثيل لها في العالم، نعم .. لقد كثر المال جداً، حتى إن المنصور بن أبي عامر لما أراد استرضاء (صبح) أم الخليفة هشام بنى لها قصراً من فضة.

واتسعت قرطبة جداً حتى شملت خمسة أحياء كبيرة اشتملت على 21 حياً يشبَّه كل حي بمدينة مستقلة في أسواقها وفنادقها وحماماتها وسائر صناعاتها بل وأسوارها التي تفصلها عن الأحياء الأخرى.

وتبعت قرطبة في ذلك مدن وكور مشهورة فازدادت مساحتها الإدارية أكثر وأكثر، حتى اتصلت العمارة في مباني قرطبة بأحيائها في أيام بني أمية ثمانية فراسخ طولاً وفرسخين عرضاً وكان يمشي فيها بضوء السرج المتصلة عشرة أميال ليلاً، فهي ذات إضاءة ليلية.

ويعد مسجد قرطبة مركزَ الحياة الاجتماعية، فقامت حوله الأسواق والحوانيت وعقدت به الاجتماعات وقرئت فيه المنشورات والأوامر النظامية، وحلت فيها كثير من المشكلات، وأحاطت به الدور والحمامات، وكثرت المساجد بقرطبة حتى بلغت 1600 مسجد وقيل 3877 مسجداً بل وقيل: إنها كانت 13879 مسجداً، ولعل هذا الاختلاف يرجع إلى ما يضاف للمساجد الكبار من الزوايا والمصليات.

وقد أثرت هذه الحياة الاجتماعية في ابن حزم من رقة في مشاعره في حداثة سنه، حيث يقول عن نفسه بعد فقْده زوجه نِعَم التي يرجح أنها زوجته الأولى: "وعني أخبرك أني أحد من دهى بهذه الفادحة، وتعجلت له هذه المصيبة... إلى أن قال: فجعتني بها الأقدار، واخترمتها الليالي ومر النهار، وصارت ثالثة التراب الأحجار، وسني حين وفاتها دون العشرين سنة، وكانت هي دوني في السن، فلقد أقمت بعدها سبعة أشهر لا أتجرد عن ثيابي، ولا تفتر لي دمعة على جمود عيني، وهكذا إلى أن قال: فوالله ما سلوت حتى الآن".

كما أعطت هذه الحياة ابن حزم معرفة بالطبائع ولا سيما طبائع النساء؛ إذ يقول: "لقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري لأني ربيت في حجورهن ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن، ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب، وحين تفيل وجهي، وهن علمنني القرآن وروينني كثيراً من الأشعار ودربنني في الخط"، وهو مع ذلك عفيف متعفف أقسم في كتابه (الطوق) أنه ما كشف فرجه على حرام قط.

كما أمدت الحياة الاجتماعية هذه ابن حزم بأمور انعكست على أفكاره وآرائه من قوله بجواز أن تلي المرأة القضاء والحكم إلى ردوده على النصارى واليهود إلى حلول للمشكلات الاجتماعية في كتبه ككتاب (مداواة النفوس)، غير ما كان في كلامه من وصف عال وعذوبة، كقوله في رثاء دوره التي خربها أعداؤه:

ولقد أخبرني بعض الوارد من قرطبة وقد استخبرته عنها، أنه رأى دورنا ببلاط مغيث في الجانب الغربي منها، وقد انمحت رسومها، وطمست أعلامها، وخفيت معاهدها، وغيرها البلى، وصارت صحاري مجدبة بعد العمران، وفيافي موحشة بعد الأنس، وخرائب منقطعة بعد الحسن، وشعاباً مفزعة بعد الأمن، ومأوى للذئاب، ومعازف للغيلان، وملاعب للجان، ومكامن للوحوش، بعد رجال كالليوث، وخرائد كالدمى، تفيض لديهم النعم الفاشية، تبدد شملهم فصاروا في البلاد أيادي سبا، فكأن تلك المحاريب المنمقة، والمقاصير المزينة، التي كانت تشرق إشراق الشمس، ويجلو الهموم حسن منظرها، حين شملها الخراب وعمها الهدم، كأفواه السباع فاغرة، تؤذن بفناء الدنيا، وتريك عواقب أهلها، وتخبرك عما يصير إليه كل من تراه قائماً فيها، وتزهد في طلبها، بعد أن طالما زهدت في تركها، وتذكرت أيامي بها،  ولذاتي فيها، وشهور صباي لديها مع كواعب إلى مثلهن صبا الحليم.

 ثالثاً: الحالة الثقافية، العلمية والأدبية: 

على الرغم من تدهور الحالة السياسية بالأندلس عصر ابن حزم إلا أن الحالة الثقافية لم تضعف، بل ثمة عوامل أثرت في ازدهارها منها مظاهر الصراع السياسي بين المسلمين والنصارى والصراعات المذهبية التي أدت إلى ترقي في العلوم والآداب والفنون والصناعات حيث إنها من مظاهر القوة التي يعلو بها كل قرين على قرينه كما ظهر علماء أجلاء ومحدثون عظماء أمثال أبي عمر بن عبد البر رفيق ابن حزم وأبي الوليد الباجي ختن المالكي.

وقد كانت مدينة قرطبة مركزاً مهماً للتقدم العلمي والفني، فكانت ملتقى الشعراء والأدباء والفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث كما كانت في الوقت نفسه أكثر بلاد الأندلس كتباً وأحفلها بالخزائن والمكتبات، ولم تكن قرطبة تخلو من المنكرات واللهو والمجون في حين كانت في الوقت نفسه معقلاً للعلم والعلماء.

كان الحكم (المستنصر) مشاركاً في العلوم، يجمع بشره الحذاق في صناعة النسخ والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد فكانت مكتبته نادرة الزمان، وكانت فهارسها تشمل 44 فهرسة في كل فهرسة عشرون ورقة وليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين لا غير.

إن ابن حزم -رحمه الله تعالى- قد تلقى العلم بكل الوسائل المعروفة في تأسيس الحضارة الإسلامية فقد تعلم من المسجد والمكتبة، والمناظرة والمساجلة، والمنتديات وقصور الأمراء، ولا شك أن الثراء المعرفي في قرطبة والأندلس بعامة انعكس على فكره، وانسحب داخل شخصيته، لهذا كان جامعة متحركة، ومكتبة زاخرة.

وبطبيعة الحال كانت هذه سمة الأعلام والمفكرين إبان نهضة الأندلس والمسلمين.

لكن ابن حزم كانّ المتميّز بينهم حتى قال عنه القاضي أبو القاسم صاعد بن أحمد: كان أبو محمد ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة.

كانت قرطبة حاضرة الغرب الإسلامي كما كانت بغداد حاضرة الشرق، ومن يطالع القسم الرابع من الذخيرة يجد بحثاً عن كثرة من هاجر إلى الأندلس من الآفاق وطرأ عليها من شعراء الشام والعراق، ويورد المقري نحواً من 250 ترجمة عمن رحل من الأندلس إلى المشرق، وقريباً من 75 ترجمة لمن رحلوا من المشرق إلى الأندلس وما ذلك ببعيد عما ذكره ابن بشكوال في "الصلة" والحميدي في "الجذوة".

وبيئة الأندلس لا بد وأن ينبت فيها الشعراء، ولذا زخر الأدب الأندلسي بجميل الشعر وطرائف الأدب.

كما أن الفقه والحديث دخلا الأندلس مع كبار فقهاء المالكية، وكان يحيى بن يحيى الليثي -أوثق رواة الموطأ- لا يلي القاضي في أقطار الأندلس إلا بأمره.

ولم يزل العلم ظاهراً في الأندلس حتى تساقط عمرانها وتشتت سكانها كما يذكر ابن خلدون وكان ذلك قريباً من منتصف القرن الخامس الهجري.

«وقد خصص ابن حزم رسالته "فضل علماء الأندلس" للكلام على البيئة العلمية في عصره وبين فيها مدى إسهام الأندلس ورجالها في بناء الحضارة الإسلامية بها، وقال عن قرطبة: " كان أهلها من التمكن في علوم القراءات والروايات أو حفظ كثير من الفقه والبصر والنحو، والشعر، واللغة والخبر والطب والحساب والنجوم بمكان رحب الفناء، واسع الفطن متنائي الأقطار فسيح المجال". وكذلك حدثنا ابن حزم عن العلوم المتبعة في عصره فقال:" أما الاشتغال برواية القراء المشهورين السبعة، وقراءة الحديث، وطلب علم النحو واللغة، فان طلب هذه العلوم فرض واجب على المسلمين كافة، وأما النحو واللغة ففرض أيضاً على الكافة وأن طلب العلم إجمالاً لابد أن يكون لوجه الله".

مما سبق يتبين أن البيئة العلمية بالأندلس كانت مزدهرة منتعشة وأن ابن حزم وجد فيها التربة الخصبة والمكان الرحب الواسع الثراء بالعلوم والآداب فنهل من كل علم وتذوق كل فن فجاء بثقافة واسعة وحمل علوماً نافعة.

وأخيراً يمكن القول: إن ابن حزم كان ابن عصره ووليد بيئته فكان سياسياً مع السياسة، وكان رجل دين متحمساً لدينه، وكان اجتماعياً منتبها لمجتمعه ولظروفه وأحواله الاجتماعية المتنوعة المختلفة، وأخيراً كان عالماً في مجال العلم والأدب أي أنه كان منفعلاً ومتفاعلاً مع ظروف مجتمعه»([8]).

 

3.   علْميّة ابن حزم، ومؤلفاته:



اتسمت علمية ابن حزم بأنها موسوعية، فلا تجد فناً إلا وقد طرقه وبرع فيه، وسيتبين ذلك من خلال كلام العلماء والمؤرخين عنه، ومن خلال كتبه التي تركها عقب حياة مليئة بالعلم والفكر والعمل، تزيد عن السبعين عاماً.. بعد أن نعرض سريعاً إلى طلبه العلم وشيوخه.

طلب ابن حزم العلم([9]):

كان ابن حزم في أول عمره قد عاش في القصر، وكانت النساء والجواري يلقّنّه ويؤدّبنه، وقد حفظ عليهن القرآن، وتلقّى الشعر، وتعلّم الخطّ. كما تعلّم من جدّه أيضاً. وكان والده أستاذاً له في الأدب والفقه والتاريخ بخاصة إذ كانت له اليد الطولى والتأثير القوي في تشكيل ثقافة ابنه التاريخية حيث كان يحدثه بالأحداث التاريخية المهمة بحكم شخصه ومكانته في الدولة، كما لعب دوراً في غرس معالم الزهد والصبر في قلبه من خلال موعظته إياه. وصحب ابن حزم في أول طلبه أبا الحسن بن علي الفاسي ويصفه بأنه كان عاقلاً عاملاً عالماً ممن تقدّم في الصلاح والنسك الصحيح في الزهد في الدنيا. وأما شيوخه فكُثر، فقد وصلت إحصائية مشايخه في بعض المراجع إلى 60 شيخاً في التخصصات المتنوعة، من أشهرهم: أحمد بن محمد بن سعيد بن الجسور القرطبي (320-401هـ) أول شيخ سمع منه ابن حزم قبل سنة 400هـ كان شيخاً له في الفقه والحديث والتاريخ. ومسعود بن سليمان الشنتريني المعروف بأبي الخيار (ت426هـ) كان شيخاً له في الفقه والحديث وعلومه وعنه أخذ الفكر الظاهري والدعوة إلى الاجتهاد ونبذ التقليد.

أقوال العلماء والمؤرخين في ابن حزم الأندلسي:

قال الحافظ الحميدي: كان حافظاً عالماً بعلوم الحديث وفقهه مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنة متفنناً في علوم جمة، عاملاً بعلمه زاهداً في الدنيا بعد الرئاسة التي كانت له ولأبيه من قبله في الوزارة وتدبير الممالك، متواضعاً ذا فضائل جمة وتواليف كثيرة في كل ما تحقق به من العلوم، وجمع من الكتب في علم الحديث والمصنفات والمسندات شيئاً كثيراً وسمع سماعاً جماً... وما رأينا مثله في ما اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ وكرم النفس والتديّن([10]).

وقال ابن العماد الحنبلي: كان إليه المنتهى في الذكاء وحدة الذهن وسعة العلم بالكتاب والسنة والمذاهب والملل والنحل والعربية والآداب والمنطق والشعر مع الصدق والديانة والحشمة والسؤدد والرياسة والثروة وكثرة الكتب([11]).

وقال أبو حامد الغزالي: وجدت في أسماء الله الحسنى كتاباً لأبي محمد بن حزم يدل على عظم حفظه وسيلان ذهنه([12]).

وقال أبو القاسم صاعد بن أحمد: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم، مع توسعه في علم اللسان والبلاغة والشعر والسير والأخبار، أخبرني ابنه الفضل أنه اجتمع عنده بخط أبيه من تآليفه نحو أربعمئة مجلد تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة([13]).

وقال ابن خلكان: كان حافظاً عالماً بعلوم الحديث مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنة بعد أن كان شافعي المذهب فانتقل إلى مذهب أهل الظاهر وكان متفنناً في علوم جمة عاملاً بعلمه زاهداً في الدنيا بعد الرياسة التي كانت له ولأبيه من قبله في الوزارة وتدبير الملك متواضعاً ذا فضائل وتآليف كثيرة، وجمع من الكتب في علم الحديث والمصنفات والمسندات شيئاً كثيراً، وسمع سماعاً جماً، وألف في فقه الحديث كتاباً سماه كتاب الإيصال إلى الفهم، وكتاب الخصال الجامعة نحل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام والسنة والإجماع أورد فيه أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين رضي اللّه عنهم أجمعين، وله كتاب في مراتب العلوم وكيفية طلبها وتعلق بعضها ببعض، وكتاب إظهار تبديل اليهود والنصارى التوراة والإنجيل وبيان ناقص ما بأيديهم من ذلك مما لا يحتمل التأويل وهذا معنى لم يسبق إليه، وكتاب التقريب بحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، وكان له كتاب صغير سماه نقط العروس جمع فيه كل غريبة ونادرة([14]).

وقال عنه صدّيق حسن خان: كان متفنناً في علوم جمة عاملاً بعلمه زاهداً في الدنيا بعد الرياسة التي كانت له ولأبيه من قبله في الوزارة وتدبير الملك متواضعاً ذا فضائل جمة وتواليف كثيرة([15]).

وقال ابن مفلح: كان إليه المنتهى في الذكاء والحفظ وكثرة العلم وكان متفنناً في علوم جمة وله التصانيف الفاخرة في علوم شتى حتى في المنطق، وشرح المحلى في اثني عشر مجلداً، ومن طالع كتابه هذا وجد فيه تأدبه مع الإمام أحمد ومتابعته([16]).

وقال العز بن عبدالسلام: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل المحلى لابن حزم والمغني لابن قدامة([17]).

وقال ابن بشكوال: كان أبو محمد أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان ووفور حظه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار أخبر ولده أبو رافع الفضل أنه اجتمع عنده بخط أبيه من تأليفه نحو أربعمائة مجلد تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة([18]).

وقال عبدالواحد المراكشي: نَبَذَ الوزارة واطّرحها اختياراً، وأقبلَ على قراءة العلوم وتقييد الآثار والسنن، فنال من ذلك ما لم ينل أحد قبله بالأندلس، وكان على مذهب الإمام أبي عبد الله الشافعي أقام على ذلك زماناً ثم انتقل إلى القول بالظاهر وأفرط في ذلك حتى أربى على أبي سليمان داود الظاهري وغيره من أهل الظاهر، وله مصنفات كثيرة جليلة القدر شريفة المقصد في أصول الفقه وفروعه على مهيعه الذي يسلكه ومذهبه الذي يتقلده وهو مذهب داود بن علي بن خلف الأصبهاني الظاهري ومن قال بقوله من أهل الظاهر ونفاة القياس والتعليل، بلغني عن غير واحد من علماء الأندلس أن مبلغ تصانيفه في الفقه والحديث والأصول والنحل والملل وغير ذلك من التاريخ والنسب وكتب الأدب والرد على المخالفين له نحو من أربعمئة مجلد تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة وهذا شيء ما علمناه لأحد ممن كان في مدة الإسلام قبله إلا لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري فإنه أكثر أهل الإسلام تصنيفاً فقد ذكر أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر الفرغاني في كتابه المعروف بالصلة وهو الذي وصل به تاريخ أبي جعفر الطبري الكبير أن قوماً من تلاميذ أبي جعفر لخّصوا أيام حياته منذ بلغ الحلم إلى أن توفي في سنة 310 وهو ابن ست وثمانين سنة ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته فصار لكل يوم أربع عشرة ورقة وهذا لا يتهيأ لمخلوق إلا بكريم عناية الباري تعالى وحسن تأييده له، ولأبي محمد بن حزم بعد هذا نصيب وافر من علم النحو واللغة وقسم صالح من قرض الشعر وصناعة الخطابة… وإنما أوردت هذه النبذة من أخبار هذا الرجل وإن كانت قاطعة للنسق مزيحة عن بعض الغرض لأنه أشهر علماء الأندلس اليوم وأكثرهم ذكراً في مجالس الرؤساء وعلى ألسنة العلماء وذلك لمخالفته مذهب مالك بالمغرب واستبداده بعلم الظاهر ولم يشتهر به قبله عندنا أحد ممن علمت وقد كثر أهل مذهبه وأتباعه عندنا بالأندلس اليوم([19]).

وقال جلال الدين السيوطي: كان صاحب فنون وورع وزهد وإليه المنتهى في الذكاء والحفظ وسعة الدائرة في العلوم، أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم مع توسعه في علوم اللسان والبلاغة والشعر والسير والأخبار([20]).

وقال عنه الذهبيالإمام الأوحد، البحر، ذو الفنون والمعارف أبو محمد، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم([21]).

وقال ابن كثير: قرأ القرآن واشتغل بالعلوم النافعة الشرعية وبرز فيها وفاق أهل زمانه وصنف الكتب المشهورة يقال إنه صنف أربعمئة مجلد في قريب من ثمانين ألف ورقة وكان أديباً طبيباً شاعراً فصيحاً له في الطب والمنطق كتب وكان من بيت وزارة ورياسة ووجاهة ومال وثروة([22]).

وقال الفيروز آبادي عنه: إمام في الفنون، وزر هو بعد أبيه للمظفر وترك الوزارة وأقبل على التصنيف ونشر العلم... ([23]).

أما مؤلفاته؛ فكما أشار مترجموه أنها كثيرة، وبعضها فُقد، وبعضها مخطوط لم يطبع بعد، وهذه قائمة ببعضها -مما ذكره الفيروزآبادي في تتمة كلامه السابق-:

ومن تصانيفه كتاب "التقريب في بيان حدود الكلام وكيفية إقامة البرهان" في كل ما يحتاج إليه منه وتمييزه مما يظن أنه برهان وليس برهانا، وكتاب "الأخلاق والسير" صغير وكتاب "الفصل بين النحل والملل" وكتاب "الدرة في الاعتقاد" صغير ورسالة "التوفيق على شارع النجاة باختصار الطريق" وكتاب "التحقيق في نقض كلام الرازي" وكتاب "التزهيد في بعض كتاب الفريد" وكتاب "اليقين في النقض على عطاف في كتابه عمدة الأبرار" وكتاب "النقض على عبد الحق الصقلي" وكتاب "زجر العاوي وإخسائه ودحر الغاوي وإخزائه" وكتاب "رواية أبان يزيد العطار عن عاصم" في القراءات وكتاب "الرد على من قال إن ترتيب السور ليس من عند الله بل هو فعل الصحابة" وكتاب "الإحكام لأصول الأحكام" وكتاب "النبذ في الأصول" وكتاب "النكت الموجزة في إبطال القياس والتعليل والرأي" وكتاب "النقض على أبي العباس بن سريج" وكتاب "الرد على المالكية" في الموطأ خاصة وكتاب "الرد على الطحاوي في الاستحسان" وكتاب "صلة الدامع الذي ابتدأه أبو الحسن بن المفلس" وكتاب "الخصال في المسائل المجردة وصلته في الفتوح والتاريخ والسير" وكتاب "الاتصال في شرح كتاب الخصال" نحو أربعة آلاف ورقة وكتاب "المحلى" و"شرحه" وكتاب "المعلى في شرح المحلى" بإيجاز وكتاب "حجة الوداع" صغير ورسالة في التلخيص في تلخيص الأعمال وكتاب "مراتب العلماء" وكتاب "مراتب التواليف" و"اختصار كتاب العلل" للباجي و"التاريخ الصغير" في أخبار الأندلس وكتاب "الجماهير" في النسب ورسالة في النفس ورسالة في النقس ورسالة في الطب ورسالة في النساء ورسالة في الغناء وكتاب "الإعراب عن كشف الالتباس الموجود في مذاهب أصحاب الرأي والقياس" وكتاب "القواعد في المسائل المجردة" على طريقة أصحاب الظاهر نحو ثلاثة آلاف ورقة وكتاب "تأليف الأخبار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ظاهرها التعارض" ونفي التناقض عنها نحو عشرة آلاف ورقة ورسالة الاستحالات وكتاب في الألوان ورسالة في الروح والنفس ورسالة في مراعاة أحوال الإمام ورسالة في فضل الأندلس وذكر علمائها وتواليفهم ورسالة الكشف عن حقيقة البلاغة وحين الاستعادة في النظم والنثر وكتاب "غلط أبي عمرو المقرئ في كتابه المسند والمرسل" وكتاب في العروض صغير وكتاب "طوق الحمامة" نحو ثلاثمئة ورقة عارض كتاب الزهرة لأبي بكر بن داود وكتاب "دعوة الملل في أبيات المثل" فيه أربعون ألف بيت وكتاب "التعقيب على ابن الإفليلي" في شرح شعر المتنبي وكتاب في الوعد والوعيد ورسالة "الإيمان" وكتاب "الإجماع".

ومن ثَمّ يظهر جلياً: أنه رجل موسوعي؛ فهو فقيه محدّث أصولي مؤرّخ فيلسوف لغوي أديب طبيب.

 


4.   إضاءة حول فكر ابن حزم:

خاض الناس في ما سمّوه (مذهب ابن حزم الفقهي) وهو (الظاهرية)، والحقيقة أنّ الظاهرية هي منهج فكري لدى أهل الظاهر الأصَلاء، وهذا ما أشار إليه محقق كتاب "طوق الحمامة" عبد الحق التركماني حيث قال([24]): (يمكنني أن أزعم -في ضوء قراءاتي ودراساتي للمذهب الظَّاهري- أن الظاهرية ليست مذهبًا فقهيًا حسب, بل هي طريقة في التفكير, قد ارتضاها أصحابها لأنفسهم, لا لجمودهم وحَرْفيتهم, ولا لضيق نظرهم وتفكيرهم, وإنما لبراهين عقلية تقرَّرت عندهم, وترجَّحت لديهم, بشواهد من الكتاب والسنة! فالظاهرية تخفي وراءها نزعة عقلية, يمكن رصد بعض أبعادها من خلال ملاحظة عوامل التكوين الفكرية والعلمية لأئمتها, ودراسةِ تراثها المتميز بالأصالة والتنوع والإبداع).

ويصرّح باحث آخر فيقول: (ولا بد لي من الجرأة هنا لأقول: إن فكر ابن حزم قد تعرّض لسوء فهم وقصور إحاطة من غالبية مَن عالجوه قديماً وحديثاً، بسببٍ من نكهته اللامألوفة اللاذعة، ولأن جهده العظيم لم يتوفر جهد يوازيه ويواكبه ليمكن الإحاطة بما فيه من أصالة وعمق وشمول)([25]).

وقبلهما قال العلامة الشوكاني -في ترجمة أبي حيان صاحب التفسير-: (وكان ظاهرياً... قال ابن حجر "كان أبو حيان يقول: محال أن يرجع عن مذهب الظاهر من علق بذهنه" انتهى. ولقد صدق في مقاله، فمذهب الظاهر هو أول الفكر وآخر العمل عند من مُنح الإنصاف ولم يَرد على فطرته ما يغيّرها عن أصلها، وليس هو مذهب داوود الظاهري وأتباعه، بل هو مذهب أكابر العلماء المتقيّدين بنصوص الشرع من عصر الصحابة إلى الآن، وداوود الظاهري واحدٌ منهم، وإنما اشتُهر عنه الجمود في مسائل وقف فيها على الظاهر حيث لا ينبغي الوقوف وأهمل من أنواع القياس ما لا ينبغي لمنصف إهماله، والواضح من كتب الظاهرية أنهم لا يهملون هذا النوع من القياس، ولا يسمى عندهم بالقياس، إنما دلالة النص، والحق أنه أدلّ في التعبير، والأحرص في حفظ العقل في الخوض في متاهات التأويل. ودلالة النص هو نفسه القياس بالنص عند أصوليي المذاهب) ([26]).

 

5.   ملامح شخصية ابن حزم:

جاء الوصف لابن حزم من ابن العريف أبي العباس (المتوفى 536هـ) في عنف شخصيته مقارناً بين سيف الحجاج ولسانه، فقال: كان لسان علي بن حزم وسيف الحجاج شقيقين. يعني بذلك كثرة وقوعه في العلماء، كما قد عرف من صنيع الحجاج بهم وسفكه لدمائهم.

والحق أنه لم يكن وقّاعاً في العلماء والأئمة، وإنما هي من تُهم الخصوم، فمن راجع كتبه لم يجد ذلك، والبيّنة على من ادّعى، إنما شأنه في الردود مع الأقوال لا مع أصحابها، فكان يصف القول الباطل في نظره بأوصاف تبيّن شناعته، وقلّ أن يذكر أحداً باسمه -طعناً- إلا بعض رؤوس أصحاب البدع.

وقد عُرف عنه أنه مبجّل للعلماء والأئمة كما أنه كتب رسالة مفردة في ذلك وقد ألحقها بعضهم بكتابه (الأحكام).

إلا أنّ لهجته في الردّ كانت شديدة؛ والحق أن العامل الاجتماعي والسياسي وما توالد منهما من عنف وطول لسان، وكذلك مرضه، وعلته أثرت في أخلاقه وعنف شخصيته، حتى قيل: كان صلباً في استقلاله الفكري وتحرره المعنوي، لا يرى مسوغاً لطاعة أحد سوى نفسه في رأيه...

ولنترك لابن حزم الحديث عن وضعه وذهنه وتأثير ما تقدم فيه، يقول في كتابه (طوق الحمامة) الذي سجل فيه كثيراً من حوادث حياته ما نصه: "فأنت تعلم أن ذهني متقلب وبالي مهصر، بما نحن فيه من نبو الديار والخلاء عن الأوطان، وتغير الزمان ونكبات السلطان...". وهذا العنف شاركت فيه العلة التي أصابته في طحاله، فها هو ذا يقول رغم تأكيده في رسالته "مداواة النفوس" على أدب المناظرة: "لقد أصابتني علة شديدة، ولّدت فيّ ربواً في الطحال شديداً، فولّدتْ ذلك عليّ من الضجر، وضيق الخلق، وقلة الصبر، والنزق، أمراً هاشت نفسي فيه، وأنكرت تبدّل خلقي، واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي وصحّ عندي أن الطحال موضع الفرح، وإذا فسد تولّد ضده". فهذا يؤكد اجتماع تلكم الأسباب الاجتماعية والسياسية وغيرها في عنف شخصيته، حتى إنه حين يصف فساد الأوضاع واختلاطها وفتنتها بعد أن يذكر تسلط الكافرين على ديار الإسلام في الأندلس، يقول: "إني لا أعلم لا أنا ولا غيري بالأندلس يملك درهماً حلالاً ولا ديناراً طيباً يُقطع على أنه حلال...". رغم هذه اليقظة منه للأوضاع من حوله، وعلمه بأن الحكمة والمجادلة مطلوبة من الشرع مع المسلمين، بل ومع أهل الكتاب، كان للخصومة وجودها الواضح في منازلاته الكلامية ومجادلاته([27]).

وقال عبدالحق التركماني([28]): (أستطيع الزعم بأنَّ هذا الكتاب كما هو كتاب حبٍّ, فهو -أيضًا- كتاب سيرة وذكريات واعترافات شخصية, وهو -أيضًا- كتاب أخلاق وقيم.

لهذا تجدني أكرر ما ذكرته في مقدمة كتابه الآخر: "الأخلاق والسير" [ص20] من أنَّه يمكن استخراج كثير من الفوائد منه, خاصَّة فيما يتعلَّق بشخصية ابن حزم وحبِّه للحق والعدل والصِّدق, وبغضه الشديد للباطل والظُّلم والكذب).

وقال أيضاً([29]): (وقد اتصف ابن حزم بخصلتين جُبل عليهما, هما الوفاء وعزة النفس, وكل واحدة من هاتين السَّجيَّتين تدعو لنفسها, فالوفاء يدعو إلى الثبات وعدم التلون والنسيان, وعزة النفس لا تقرُّ الضيم, وتهتم بأقل ما يرد عليها من تغير المعارف, فتدعو -بطبيعة الحال- إلى الهجر والنسيان...).

هذا، وقد اجتمعت في ابن حزم مواهب وسجايا وأخلاق مميزة، من أهمها: تميزه بحافظة قوية مستوعبة، وبديهة سريعة حاضرة تسعفه بالمعلومات الشاردة في وقت الحاجة إليها، وقوة ملاحظة، وقدرة استدلالية هائلة، وكان هذا كافياً لأن يكون راوية أميناً، ومحققاً نزيهاً، ومؤرخاً واسع الأفق. وكذلك أوتي من الصفات عمقاً في التفكير وغوصاً على الحقائق، وحدّة في الذكاء، فهو لا يكتفي بالاستقراء والإحصاء، حتى يعرف كل مسألة ليعرف أسرارها، ولا يكتفي بمعرفة الوقائع حتى يعرف بواعثها والدافع إليها. ومن صفاته انصرافه كلياً منذ صباه إلى طلب العلم وتحصيله، ولذلك جد فيه وصبر في طلبه، وهو فوق ذلك سبيل الله عز وجل، فجعل همه طلب العلم والتقرب إلى الله ببيان الحق والنطق به. وقد وهبه الله عز وجل صفة الإخلاص، ولذلك كان لفرط إخلاصه يباعد بين نفسه وبين العجب بها والاغترار بما وصل إليه من علم، وكان يعدّ العجب آفة الإخلاص، وآفة الرأي، وآفة الأخلاق الفاضلة، ويدعو كل امرئ إلى تعديل خطئه قبل تقدير صوابه، فيقول: "إن أعجبت بآرائك فتفكر في سقطاتك، والأغلب أن خطأك أكثر من صوابك". وقد أجمع الذين أرخو لابن حزم أنه كان صريحاً في قوله الحق ولا يخاف في الحق لومة لائم، فيقول: "فأغْضِب الناس ونافِرهم، ولا تُغضِب ربك ولا تنافِر الحق". ومن صفاته أنه كان معتزاً بنفسه من غير عُجب، ولا خيلاء، معتمداً على الله في السراء والضراء، وكان مستقيم الرأي، سليم الفكرة، بريء الساحة، ذا ديانة وحشمة وسؤدد، وكان يؤمن بأن سلامة العقيدة والشرف فوق الحياة نفسها([30]).



الحواشي والإحالات:

([1]) عنه بالتفصيل يُنظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء، (18/ 184-213).

([2]) يُنظر: ابن حزم: رسائل ابن حزم الأندلسي. (1/166).

([3]) ترجمة ابن حزم، من موقع "قصة إسلام" بإشراف د. راغب السرجاني.

([4]) ابن حزم: رسائل ابن حزم الأندلسي. (1/125). ويُنظر: الزعبي: ظاهرية ابن حزم الأندلسي. (ص29).

([5]) يُنظر: ابن بشكوال: الصلة في تاريخ أئمة الأندلس. (ص396).

([6]) ابن حزم: ديوان ابن حزم الأندلسي. (ص96).

([7]) ملخَّص عن: محمد إبراهيم النملة: المسائل الفقهية التي أنكر ابن حزم الاستدلال بها بالقياس. أطروحة دكتوراه منشورة على موقع جامعة أم القرى.

([8]) المرجع السابق.

([9]) يُنظر -على سبيل المثال-: إحسان عباس؛ أخبار وتراجم أندلسية، (ص52).

([10]) الحميدي: جذوة المقتبس، (ترجمة ابن حزم).

([11]) ابن العماد الحنبلي: شذرات من الذهب، (3/299).

([12]) نقلاً عن الذهبي: سير أعلام النبلاء، (18/187).

([13]) السابق.

([14]) ابن خلكان: وفيات الأعيان، (3/325-330(.

([15]) صدّيق حسن خان: أبجد العلوم، (3/147،148).

([16]) ابن مفلح: المقصد الأرشد، (2/213،214).

([17]) نقلاً عن الذهبي: سير أعلام النبلاء، (18/187).

([18]) ابن بشكوال: الصلة في تاريخ أئمة الأندلس، (ص395).

([19]) المراكشي: المعجب، (ص46- 49).

([20]) السيوطي: طبقات الحفاظ، (ص435،436(.

([21]) الذهبي: سير أعلام النبلاء، (18/187).

([22]) ابن كثير: البداية والنهاية، (12/113).

([23]) الفيروز آبادي: البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة، (ص146، 147).

([24]) في مقدمته عليه (ص39).

([25]) الزعبي: ظاهرية ابن حزم الأندلسي، (ص9).

([26]) الشوكاني: البدر الطالع، (2/281).

([27]) محمد إبراهيم النملة: المسائل الفقهية التي أنكر ابن حزم الاستدلال بها بالقياس. أطروحة دكتوراه منشورة على موقع جامعة أم القرى.

([28]) كما في مقدمة تحقيقه لكتاب ابن حزم: طوق الحمامة، (ص57).

([29]) السابق، (ص59).

([30]) يُنظر: محمد هشام النعسان: مصادر علم ابن حزم الأندلسي ومؤلفاته. ويُنظر: محمد أبو زهرة: ابن حزم حياته وعصره، آراؤه وفقهه. دار الفكر العربي، القاهرة.

عن موقع البوابة : https://www.albawaba.com/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق